حينما طالبت ب"قانون عدنان"، وقد تصورته إضمامة متكاملة ومتدرجة من الفصول القانونية، تؤطر وتميز جرائم الاختطاف والاغتصاب والقتل، في حق الأطفال؛ لم تكن قضية نعيمة، طفلة أحراش زاكورة، قد ظهرت بعد؛ ومن المحتمل أن المعنية، رحمها الله، كانت وقتها جثة هامدة في خلاء، تنهشها الجوارح والضواري؛ أو في الطريق لتصبح كذلك. وللاعتبارات التي نعرف جميعا، وخصوصا ما أصبح يطبع بلدنا من تناسل وتشابه ووحشية، في مجال الجرائم المرتكبة في حق الطفولة، لن نعدم ظهور جرائم أخرى، في حق براءة الطفولة التي تصر على أن تنمو أزهارا في حقولنا الجرداء. إنها الحلقة الأضعف التي تحتاج إلى رعاية الراشدين كلهم، أسرا ومجتمعا. وتبقى الدولة بقوانينها ومؤسساتها هي الراعي الصارم لهذه الجواهر -أو موارد المستقبل- التي تمشي بيننا، دون أن تدري أنها فرائس محتملة قد تتخطفها الكواسر في أية لحظة. ولعل أقوى معيار لرسوخ دولة المؤسسات، ونفاذ قوانينها، هي هذه الطفولة بالذات؛ حينما يتحقق لها الأمن الشامل؛ سواء داخل الأسر أو خارجها في البوادي كما في القرى والمدن. لا تكفي مجرد فصول، ضمن القانون الجنائي، لتحقيق هذا الأمن؛ ولعل مثل هذه القناعة هي التي جعلت المشرع المغربي يبلور قانونا خاصا بالإرهاب؛ إضافة إلى قوانين قطاعية أخرى، تحتكم إلى خصوصيات هذا القطاع أو ذاك. إن وحشية الجرائم المرتكبة في حق الطفولة، خطفا وهتكا وقتلا؛ ثم دفنا أو رميا للسباع؛ أخطر على مستقبل البلاد من الجرائم الإرهابية ذات اللبوس الديني الجهادي؛ لأن هذه الأخيرة ترتد إلى فهم خاطئ أو مغرض للدين، يظل دائما قابلا للمراجعة والتقويم والاستئصال بالمقاربة الأمنية وغيرها؛ كما أنها محدود زمنيا ومكانيا، أما الجرائم في حق الطفولة فهي جرائم غريزية مرضية "ممتدة"، في حق المستقبل كله. إنها تصيب في مقتل طمأنينة الأسرة، باعتبارها نواة المجتمع الأولى؛ كما أنها تفسد لحمة المجتمع بانزراع التوجس والشك في كل شيء، حتى في المؤسسات والأطر الموكول لهم تربية النشء. ويتسع نطاق الشك ونزع الثقة، حينما يكون المغتصب منتميا إلى الحقل الديني؛ حيث يتسيد فقيها موثوقا به إلى أقصى حد؛ مُطعَما ومَكسيا. يضاف إلى هذا كونها جرائم ولاَّدة، لأن مغتصب اليوم غالبا ما يصدر عن نفس محطمة بالأمس، تستنسخ الجرم مكررة فقط أو منتقمة. وفي جميع الحالات فان هذه الجرائم في حق الطفولة تقع ضمن نسق عام ناظم لها تتقاطع فيه التربية الأسرية، التنشئة الاجتماعية، الأمن النفسي، والمنظومة التربوية التعليمية. طبعا تقع ضمن هذه المنظومة -بكيفية محدودة وتعويمية- فصول القانون الجنائي المؤطرة؛ التي يتأكد، جريمة بعد أخرى، أنها تعاقب الجاني بعد ثبوت الجرم، لكنها لا تردع الجناة المحتملين. إنها فصول منزوعة بذرة الإنبات؛ ولهذا فهي بدرجة ردع صفرية؛ وإذا أضفنا إليها انتصاب المدافعين عن الحق في الحياة، حتى بالنسبة للوحوش من الجناة؛ إضافة إلى توالي تثبيت أجيال من الحقوق السجنية، التي لا تتوفر للسجين حتى في وسطه الأسري وبيئته الاجتماعية، فإنها ستصبح نوعا من العقاب السعيد، تتوج به جريمة وحشية في حق الطفولة ومستقبل البلاد. هذا التعويم، ضمن منظومة القانون الجنائي لفصول عقابية فقط، هو الذي شجع المنادين بإلغاء عقوبة الإعدام على اعتبار الجنايات كلها متساوية؛ مهما كانت بشاعتها ودرجة خطورتها. وبكيفية مفارقة يحضر في نقاشهم المتهافت حق الجاني في الحياة؛ رغم الهيكل العظمي لنعيمة، الذي ألقت به شعابُ زاكورة في وجهنا بعد أن أكلت الجوارح اللحم وامتشت العظم. وبعد أن لم يعد عدنان غير قبر مخفي، تخوم الفضيحة والوحشية، غير بعيد عن مسكن أسرته. وبعد أن هاج المجتمع برمته وماج، مطالبا ببتر العضو الفاسد؛ وهو يستحضر ألا عقوبة أقسى من هذا في المجتمع المغربي، ذي الأعراف القصاصية الراسخة؛ دينية وغير دينية. أرجل الجريمة النكراء في طنجة وزاكورة، ورؤوس مناهضي الإعدام هناك في دول الحضارة ذات النسق القانوني والعلاجي المتكامل. ولسان الحال: انظروني أحمل مشعل الحقوق الإنسانية في مجتمع همجي متخلف، يوشك أن يفترس الجاني. وإذ أكرر الترحم على الروحين الطاهرتين، في الشمال الغربي والجنوب الشرقي، أشدد التكرار على المطالبة هذه المرة، ب"قانون عدنان ونعيمة". قانون متكامل ومستقل؛ أو ملحق بقانون الإرهاب للتشابه. يجب ألا يذكر "قانون عدنان ونعيمة" إلا وترتعد فرائص الجناة المحتملين؛ وحتى لا يتجول طفل أو طفلة، في شوارعنا، وفي ربوع المغرب كله؛ إلا وهو وأسرته في كامل الاطمئنان، لأن سيف القانون مسلول، والسياف متأهب. ومثل هذا قيل عن أمن النساء في عهد السلطان إسماعيل؛ حيث كانت حتى المرأة تسافر في الطرقات كلها، دون إزعاج. وقريب من هذا رد السلطان عبد الحفيظ -حينما ظفر بالفتان بوحمارة- على قناصل الدول بطنجة، وهم يحاولون التدخل لثني جنوده عن التنكيل بالأسرى: لا تطالبوا بحقوقكم، في دولكم، لمجرمينا، فنحن أدرى بهم. طبعا لقد وقعت الدولة على معاهدات دولية تلزمها، في مجال حقوق الإنسان؛ لكن هذا لا يمنعها من تعميق وتثبيت، وتمييز حقوق الطفل بإضمامة حقوقية صارمة؛ ينشط لتنزيلها جهاز أمني مخابراتي، بقوة وفعالية وحضور الجهاز الموكول له أمر الإرهاب. يفصل أزيد من شهر بين الإعلان عن اختفاء نعيمة والعثور على عظامها في أحراش زكورة؛ هل هذا معقول في منطقة جبلية صحراوية كثافتها السكانية متدنية؟ لو كانت هناك مسطرة أخرى للتتبع، كالتي نعرف في مجال الإرهاب -وهي بشهرة دولية- لتجندت لنعيمة حتى ثعالب وذئاب الأحراش. وحفظ الله أطفالنا جميعا، ما حفظناهم.