ما حدث للطفل عدنان عمل وحشي سافر لا يمكن استساغته ولا القفز عليه، إنه جريمة نكراء استهدفت طفلا بريئا.. لسنا في حاجة إلى التأكيد أنه أحدث جرحا غائرا في قلوب كل المغاربة.. لم أشأ في البداية الخوض في النقاش حول مطالب إعدام وحش طنجة، احتراما للحظة الحزن الذي اجتاحنا جميعا وأيضا حفظا لحرمة القتيل ومشاعر العائلة الصغيرة والكبيرة لعدنان.. بل نصحت أصدقاء لي من مناضلين وإعلاميين حقوقيين بعدم الدخول في دائرة الجدل الآن حول العقوبة التي يستحقها قاتل عدنان، تقديرا مني أن المعارك الأساسية في مجال عقوبة الإعدام تنصب على القوانين أساسا والتي لا تصاغ في لحظات الانفعال والغضب لأنها سترهن مصير أجيال مقبلة؛ ولكن خروج أصوات محسوبة على النخبة، لتطالب بدورها بما يطالب به عامة الناس، أبرز أن الأمر يعكس خللا كبيرا ممن استهواهم الركوب على المشاعر العامة التي لا تدوم جذوتها والتي تصنع الكثير من الضجيج والشهرة لكنها لا تقدم فائدة للقضية ذاتها.. ومع بروز ردة حقوقية تذكرنا بما حدث عام 1993 حين أعدمت الصحافة الكوميسير ثابت قبل أن يعدمه القانون، اكتشفت أن تغيير القانون لا يمكن أن يكون خارج تيار مجتمعي كاسح يقطع مع ثقافة الثأر وإعمال شرع اليد والعودة إلى وحشية القرون السابقة التي ناضلت البشرية كثيرا للقطع معها، والحياد في هذا الموضوع والصمت فيه جريمة لا تقل عن وحشية ما اقترفته يدا الجاني.. لا يمكن أن يزايد علينا مناصرو تطبيق، وليس فقط إصدار عقوبة الإعدام في حق الجاني الذي قتل بدم بارد الطفل عدنان، بالقول تصور لو كان عدنان ابنك؟ لأن عدنان بالفعل هو الضمير الحي فينا الذي يوخزنا، ونعتبر أننا كمجتمع ضيعنا المرحوم عدنان لأننا لم نحميه، كما لم نحم طفولتنا المغتصبة.. لكن أليس المجرم الذي قام بالفعل أخونا جميعا كمغاربة، أي أنه واحد منا، ونتحمل جميعا مسؤولية انحرافه وغرائزه غير المنضبطة وميولاته المنحرفة.. صحيح إنه أخ نتبرأ منه، لكنه انتماء وجذورا ليس كائنا قادما من الفضاء أو أنجبه الشيطان أو استنبتته أرواح شريرة بيننا.. الضحية عدنان والجلاد المجرم هما معا منا، من تربة هذا البلد.. وعدنان ليس إلا الوجه البارز الذي هزتنا جميعا الجريمة النكراء التي كان ضحية لها، لكن هناك الكثير من الأطفال والقاصرين الذين اغتصبوا وما زالوا من طرف أقاربهم ومن طرف جيرانهم وصمتوا درءا للعار، والنقاش الدائر اليوم لن يساعد الأسر والضحايا مستقبلا على الخروج إلى العلن لفضح الجناة وحفظ أطفالهم من الاعتداءات الجنسية الغاشمة؟ يجب ألا نزايد على بعضنا في العواطف، المشترك الإنساني بيننا الذي نحيى به على هذه الأرض، وأيضا لنخرج من دائرة الاتهامات بأن من يعارض الحكم بالإعدام هو مع الجاني، وضد الضحية عدنان.. أبدا كلنا عدنان، الذي هو طفلي أو طفلتي، أخي أو أختي، حفيدي أو حفيدتي مستقبلا، وأتطلع إلى أن أحمي كل "عدنان" من الذئاب المحيطة به والمهددة لسلامته في حياته وصحته وتوازنه النفسي والتي ينتج هذا المجتمع نفسه الذي يريد أن يحاكم ضحايا بالقتل، هل نصب مشنقة في الساحة العامة سيبل ريق القتلة الجدد تحت يافطة القصاص والثأر والانتقام وأخذ العبرة؟ هل إعدام مجرم طنجة سيطهر كل الوحوش الآدمية على وجه البسيطة من خطيئة انحرافها.. لنقول أهلا وسهلا نعدم جانيا وسيكف الباقون عن الحذو حذوه؟ هذا لم يثبت في أي بلد على مدى تاريخ تطور البشرية وحتى في الدول التي ما زالت تصدر أو تطبق عقوبة الإعدام حتى اليوم؛ وهو ما دفع بالعديد منها إلى التخلي عن إصدار هذه العقوبة، بعد أن ثبت أن إقرارها وتنفيذها لم يحد من انتشار وتطرف الجرائم التي تهز الرأي العام.. ولنتكلم بالدلائل والأرقام، في نهاية عام 2019، كانت 106 من البلدان (أي أكثر من نصف دول العالم) ألغت عقوبة الإعدام في القانون بالنسبة لجميع الجرائم، كما ألغت 142 دولة (أي أكثر من ثلثي دول العالم) عقوبة الإعدام من القانون أو لا تطبقها في الواقع الفعلي ومنها المغرب.. وأكد تقرير للأمم المتحدة، في شتنبر الماضي، أن أربع دول فقط نفذت 84 في المائة من عقوبات الإعدام في العالم عامي 2017 و2018، وهي العربية السعودية والعراق وباكستان وإيران.. هل هذه هي النماذج الراقية التي يجب أن نحذو حذوها في مجال حقوق الإنسان؟ وهل كفت الجريمة أن تحدث في هذه الدول أم ارتفعت، وأغلبها ينفذ عقوبة الإعدام بطريقة وحشية في الساحات العامة؟ في الولاياتالمتحدةالأمريكية، هناك 20 ولاية، بالإضافة إلى واشنطن العاصمة، لا تطبّق عقوبة الإعدام والعديد من الولايات بدأت تتخلى تدريجيا عن هذه العقوبة القاسية في السنوات الأخيرة؛ لأنها اكتشفت أنها تكتسي طابعا عنصريا أغلب ضحاياها من السود ومن الفئات الهشة في المجتمع الأمريكي.. وأنها لم تشكل ردعا لتنامي الجرائم البشعة التي تهز كيان الرأي العام. وقبل أن أعرض ما يرتكز عليه دعاة إصدار أو تطبيق عقوبة الإعدام في مقال موالٍ، أقول ليس قدرا على المغرب أن يعود عقودا إلى الوراء، لضرب كل المكتسبات الحقوقية التي حصلنا عليها، ولا تعودوا بنا إلى منطق: "لو كان السجن كيفما زمان، والمخزن كيف ما زمان لما حدث هذا، الكثيرون يعتقدون أن الجرائم النوعية كثرت لأن السجون المغربية أصبحت أجمل من السكن في المنازل في بعض الأحياء، ورجال السلطة أصبحوا وديعين وذهبت هيبة أيام زمان؛ بل هناك من يذهب إلى أبعد مدى فيما يشبه الحنين الجريح إلى أيام "سيبة السلطة" بلا مواثيق ولا عقود ولا قوانين للضبط... ففي عهد تلك القسوة اغتصب وقتل مجرم بتارودانت 11 طفلا! نحن لا نحتفي بالجلاد/ القاتل على حساب الضحية عدنان، ولا نطالب بالعفو عنه وتعليق النياشين على صدره تكريما له أو تمتيعه بسجن من خمس نجوم؛ ولكن علينا التأمل مليا في أن وظيفة العدالة هي الإصلاح لا القتل والتصفية بدافع الردع وأخذ العبرة، والمجتمع نفسه لا يؤمن بما يقول، لأنه لم تنفذ عقوبة الإعدام بالمغرب منذ 1993، هناك ما يشبه الخجل من ارتكاب الدولة لجريمة القتل باسم القانون.. إن مقتل عدنان هو فرصة للتفكير العميق والجذري في سبل تحصين طفولتنا من جرائم الاعتداءات الجنسية، أعمق من التراجع الحقوقي وترسيخ الردة بالعودة إلى التمسك بعقوبة حتى من يصدرونها لا يطبقونها بنوع من الخجل الإنساني.. رسالة عدنان، لنا جميعا كمجتمع حي، هي: "أنقذوا الطفولة كي لا يتكرر ما حدث معي"، وفي غياب التربية والتحسيس والتوعية بخطورة اغتصاب الأطفال، وفي غياب وعي جماعي بضرورة حماية أطفالنا كي لا يتكرر ما حدث للمرحوم عدنان لن نحمي أطفالنا، وسيكون غضبنا دمويا وبدائيا لا يقل قسوة عما قام به مجرم طنجة، ولا يقدم لأطفالنا في المستقبل أي حماية.. لقد رأينا مقاطع مصورة لأشخاص لا يقلون وحشية عن الجاني وهم يطلبون السلطات تسليمهم المجرم القاتل لشرب دمه وتقطيع أطرافه، إنها دعوة بربرية وحشية، مسكونة بالغرائز ولا علاقة لها بالتمدن والحضارة التي تعكس الوجه الإنساني المحكوم بروح القوانين لا بثقافة الثأر باسم القانون وشرعية وجود فصل في القانون الجنائي يقضي بتطبيقه، لا يمكن للبلد أن يعود سنوات إلى الوراء فقط ليرضي الغرائزيون البدائيون نزواتهم التي لا تبني وطنا ولا تضع حدا لتكرار مآسي اغتصاب وقتل أطفالنا.. ستهدأ فورة العواطف ويعود المجيشون إلى "روتينهم اليومي" حتى نستيقظ على جرائم أفظع، فاتقوا الله في طفولتنا واحموا أبناءنا بما يمكث في الأرض.. أما زبد الانتقام فيذهب جفاء.