في البداية لا بد من الإشارة إلى أن اختيارنا لهذا العنوان لا يعني حصر حضور قيم المقاومة فقط في معركتي بوكافر وبادو 1933 بل محاولة رصد حضور هذه القيم في معارك شاركت فيها قبائل إقليم تنغير. كما أن المقاومة بهذه الجهة كان لها السبق التاريخي في الذود عن حدود الوطن منذ ثمانينات القرن 19. كما تعد معركتا بوكافر وبادو من آخر المعارك المسلحة ضد الاحتلال الأجنبي بالمغرب. والواقع أنه من الصعب جدا جرد كل الخطوات التي قام بها أبناء الجنوب الشرقي لمواجهة الاستعمار ومساعدة الآخرين على مقاومته لذلك سنقتصر على تقديم بعض الأمثلة المعبرة عن قيمهم المشحونة بروح المقاومة والكفاح. فقد اتسمت هذه المقاومة بالشجاعة النادرة والبطولة ونكران الذات قل نظيرها، وفي هذا الباب نرى أن نستشهد بأحد رموز ما كان يسمى زورا حسب المصطلحات العسكرية الفرنسية بالتهدئة وهو الجنرال كَيوم، لقد جاء في كتابه "البربر المغاربة وتهدئة الأطلس 1912 -1934" ما يلي: "لم تأت إلينا تلقائيا ولو قبيلة واحدة ولم نر قبيلة واحدة تستسلم بدون أن تحارب إلى أن تستنفذ ما لديها من وسائل المقاومة". مشاهد من قيم التلاحم والتضامن والوحدة في معركتي بوكافر وبادو: شكل التغلغل الأجنبي في الجنوب الشرقي فرصة لإعلاء قيمة التلاحم والتضامن والوحدة بين قبائل أيت عطا وأيت يا فلمان ومنهم أيت مرغاد المكونة لهذا المجال، والتي اشتهرت بصراعاتها وحروبها المريرة لقرون خلت فقد شاركا معا في تحرير تافيلالت وتحجيم نفود الكَلاوي بالمنطقة، مما أرعب الفرنسيين كما ذكر اليوتنان كوليس قائلا: "منذ بداية 1918 تمكن أعداؤنا من تحقيق التحالف بينهم وهكذا اتفق أيت عطا وأيت مرغاد على إهمال تناقضاتهم المزمنة لتكوين حلف ضد الروم وهو حدث لم يسبق له نظير في المنطقة". وأمام الهجمات الفرنسية المكثفة على واحات الجنوب الشرقي واستعمالها لسلاح الطيران شهر فبراير 1933 أخذت الأسر العطاوية ومنها المرغادية وإقبليين والشرفاء تتجه نحو صاغرو لصعود جبل بوكافر تلبية لنداء الجهاد والفداء ضد الدخيل الأجنبي. كما شارك إلى جانب قبيلة أيت عيسى إزم في معركة بادو غشت 1933 على الجبهة نفسها، عدة قبائل وأخماس من أيت حديدو وأيت ايحيى وأيت إزدكَ وسكان واحة تودغة إلى جانب شرفاء زاوية سيدي بويعقوب بأسول. مشاهد من قيمة التحدي في معركتي بوكَافر وبادو راسل الفرنسيون قبل اندلاع معركة بوكَافر القائد عسو أوبسلام سنة 1930 يشرحون له أنهم لا يحبذون المبالغة في الصراع وأنهم على استعداد للتسامح، لكن عسو أوبسلام لم يزد في جوابه أن قال لهم "ليأت الذي حرر هذه الرسالة ليسمع الجواب".. وفي تصريح لصحيفة "باريس المساء" بعد انتهاء معركة جبل بادو صرح زايد أوسكونتي للصحيفة قائلا: "أوسكونتي متمسك بشرفه كزعيم للمقاومة ولا يمكنني أن أستسلم بسهولة إن طائراتكم هي التي أحرزت لكم التفوق وألحقت بنا خسائر. ولم أحاول الهرب لأن أوسكونتي لن يتخلى عن أهله وذويه في المحنة". مشاهد من قيم الصبر والشجاعة والصمود في معركتي بوكَافر وبادو ورد في تقرير استخباراتي يحمل توقيع القبطان ثيابود ليوم 25 فبراير 1933 حول معركة بوكَافر ما يلي: "أغلبية المنشقين – يقصد المجاهدين – مستعدون للدفاع والمواجهة إلى آخر نفس". المشهد نفسه يحمله تقرير استخباراتي فرنسي عن المعركة يحمل توقيع الجنرال كاترو ليوم 08 مارس 1933 يقول التقرير: "بالنسبة لمعنوياتهم فلا بد أن نؤكد بأنهم مرهقون ويعانون شح الماء، اليأس بلغ أشده لكن المقاتلين يضعون مصيرهم بين يدي الله... إنهم مستعدون للموت حتى آخر فرد". ليؤكد تقرير استخباراتي آخر يحمل توقيع الجنرال جيرو ليوم 12 مارس 1933 "إن الرغبة في التحرر والاعتداد بالنفس الأمازيغي دفعا أيت عطا لمقاومتنا حتى الآن مقاومة شرسة...". وصور مخطوط للفقيه الطالب لحسن العزاوي الذي كان معاصرا لتلك المعركة، التي نعتها في مخطوطه بغزوة صاغرو شجاعة وصمود النساء حين قال: "وكذلك النساء اللائي حضرن تلك الغزوة وأنهن فعلن كما أفعال الرجال في يوم القتال رضي الله عنهن وأنهم ينبهن الرجال في يوم القتال ليقلن لهم كونوا الرجال".. ويعضد هذه الشهادة ما أورده الطبيب الفرنسي المأجور فيال كشاهد عيان لمعركة بوكَافر بقوله: "كانت نساؤهم يسهرن على تجميع المنعزلين ويوزعن الذخائر كما كن يأخذن مكان المصابين ويدحرجن على المهاجمين صخورا حتى قعر الوادي". في معركة بادو غشت 1933 استصدر القائد زايد أوسكونتي فتوى من العالم سيدي محمد بن الحاج تالتفراوتي ومن شرفاء أسول لتحريض المقاومين على الشجاعة والصمود قائلا لهم: "الجهاد الجهاد... إن الله لا يرضى لعباده الكفر ولكن إذا قدر الله وسقطتم تحت نير المستعمرين فهنالك بيت لا يدخله الكفر وهو القلب، وقال إن الاستسلام هو الكفر". واعترف الجنرال هوري بصمود وقتالية مجاهدي معركة بادو حيث قال: "إن القيمة القتالية لأيت مرغاد والذين اصطدمنا بهم من قبل في تاديغوست لم تضعف، فكل خطأ عسكري من جانبنا يعاقب على التو بخسائر فادحة". وزاد قائلا: "بقدر ما يتقدم جنودنا كانت تزداد ضراوة مقاومة الأعداء - أي المجاهدين - فكان العدو يدافع عن نفسه بشراسة فكان يطلق علينا نيران بنادقه الرشاشة". ورغم تضييق الخناق على المجاهدين وإحكام الطوق عليهم بجبل بادو يقول الكونونيل لانكو: "إن المتعنتين – يقصد المجاهدين في جبل بادو- رفضوا مسلسل التفاوض والاستسلام هذا على الرغم من أن أزمة الماء التي يعاني منها المحاصرون مما يفرض علينا القيام بمزيد من الضغط لانتزاع الاستسلام". مشاهد من قيمة الحكمة في معركتي بوكَافر وبادو: شدد الفرنسيون والمتعاونون معهم الحصار على المرابطين في بوكَافر خصوصا بعد مقتل الفارس الأحمر بورنازيل، الذي شكل مقتله يومها مأساة للجيش الفرنسي فاشتد الحصار وارتقى من الشهداء 5 آلاف إلا قليلا من النساء وأطفال وشيوخ ولم تسلم حتى الدواب نظر عسو أوبسلام إلى الأمر بواقعية وآثر أن يحفظ ما تبقى من الدماء فبدأ التفاوض مع العدو بما يصون الكرامة فأقرت الهدنة يوم 26 مارس 1933. ومع اشتداد الحصار كذلك على مجاهدي جبل بادو في غشت 1933 قبل زايد أوسكونتي التفاوض، لفك الحصار على الأطفال والنساء والعجزة حقنا للدماء وتم ذلك يوم 29 غشت 1933. فنزل بذلك ما تبقى من المجاهدين من الجبال وقد خلدوا مجدا لا ينسى وجعلوا من بوكَافر وبادو أعظم ذكرى. خلاصة القول إن أحداث معركتي بوكَافر وبادو مارس وغشت 1933 تضمنت مشاهد متعددة لقيم الجهاد والمقاومة والفداء والمتمثلة في التضحية ونكران الذات والوفاء مع عمق الإخلاص لله وللوطن.