في تلك الشّرفة المفتوحة وغير المتناهية على مدينة شفشاون، سِيَرٌ وحكايات لا تحصى؛ فالجميع يقصدها بحماسة فائقة لينظر إلى أقصى الأقاصي، ويرى الشّمس الضاحكة تغيب رويداُ رويداً بين نسيج التّلال، ثمّ ينتظرون حلول اللّيل في خجله المُشرق من علوّ جامع "بوزْعافرْ". مع تنامي الحركة والكثافة بالمدينة، يصعد الكلّ إلى الضّفاف المترامية، مارّين بين تدفّقات الحقول والأحجار ورائحة الجبل.. مطلقين بأجنحتهم، حيث يجتمعون في مهبّ التأمّلات والسكون والصّمت الصّافي وبشاشة الكون. تبدو المدينة أكثر إشراقاً على مرمى نظر.. تصير مثل جدارية عظيمة لا حدود لأضوائها، بعضها يقود إلى بعضها متدفّقة بسحر خفيّ. يتحوّل المكان في حيويّته المُتجدّدة إلى حروف نتهجّاها من تلك الإطلالة واحداً وواحدة وكأنّه ستائر شفّافة لأرواحنا، نستعيد عبرها رذاذ الأزقّة والبيوت ومساحات الأصوات المُتناثرة، لحظة اشتعال النّوافذ بحياة أخرى وكذا هامات الصّوامع.. فتبقى الأعماق في فورانها وتصير المدينة متلألئة تعلو مع الغيوم الخفيفة. إنّه اللّيل يطلق ريشه في الهواء العذب.. في أحلام المدينة التي ستظلّ تتطلّع إلى الأفق بصبر، بحثاً عن بريق الصّدق.. بحثاً عن قلوب تشعّ بالينابيع وعن قبائل تركت وقائع مأثّرة في نسمة الحياة. ستظلّ المدينة تبحث عن آخر نجمة تعيدها إلى لمعانها ومكانتها التي تستحقّ في النّفوس. كان الضّوء يزداد توهّجا كلّما ترصّد اللّيل بقايا الشّفق من هناك، فتلتفت الوجوه والعيون والأفئدة من أعلى الشّرفة.. إلى شفشاون التي تستنفر طاقاتها هناك.. وتتميّز من حيث الشّكل والمعنى، وتزرع في جريان دمنا المودّة واللّطف والتّواضع والكبرياء. في مهبّ الأشجار.. كانت المدينة من المرتفع تستظلّ برؤى نورانية صوفية وبدلالات روحية، هي الأصدق والأوضح والأوفى.. ونحن نُجري معها أحاديث موغلة في التّفاصيل، ونقف على تاريخ حافل ومنعطفات جوهريّة.. وعن أدوارها الفاعلة ومُتعدّدة المزايا، في الجوانب الثقافية والاجتماعية والوطنيّة التي لا تحصى، فتتوحّد داخلنا بروحها الإنسانية العميقة وتوصينا خيراً بها.. ثمّ تطير في متاهات السّماء كاملة الأوصاف.