في المكان كما في الليل، هناك ألف حكاية وحكاية مُشرعة على ينابيع المدينة، تمضي بالنّاس أو تقبِلُ معهم وهم يخوضون في معمعان الحياة.. أو يستكينون في صفاء خطواتها، باحثين عن لحظات من الهدوء بين تلافيف الجبل الممتد والذي صار جزءاً من أسرار الأزل. على امتداد أبواب المدينة وأزقتها وساحاتها، يستيقظ في الليل صباح آخر، يغتني على الدوام.. بل ويتخطّى بطمأنينة كل الفصول والأزمنة، ليصير عنوانا وتفاعلا يستوعب الشواغل الإنسانية. فالدّروب تلد الأخرى، وتسافر بك إلى حدود الآفاق البعيدة وأنت تتجوّل ليلا بين شلالات الضّوء.. بين تلك الطّاقة الأخّاذة.. بين "ريف الأندلس" و"المدقة" و"العنصر" و"أوطيوي" و"الصبانين" و"رأس الماء" و"عقبة السوير" و"جامع بوزعافر".. في الليل ينظر المكان إلى ذاته مجددا ويفتح أحضانه للنجوم، يصول ويجول بين العابرين، وهو يتطلّع إلى تدافع الأرواح صوب نسمات الهواء، حيث الأشجار ترتجف في العتمات وتميل نحو الأرض لتسقي بظلالها السّماء والصمت الذي ينطق بالتاريخ.. جدران المكان، بوصفها هويّة جماعية وإن اغتربت بمهرجانات الألوان وتنافرها وبانحسار الذوق أحيانا، ما زالت تطّل عليك وتحاول الصّمود، وكأنها تكسّر توقعات من يصفعون ملامحها ورائحة ماض قريب لن تثنيه أيادٍ لا تميّز بين إرث الحضارة ومنتصف المتاهة. هو الليل في عذوبته وفي كثافة حضوره يدلّنا عليه، يفتح نوافذ قلبه ويمسي مسكنا للوجود ومأوى لأعشاش الطير وموطنا للقريب والبعيد. الليل هنا صديق للجميع، فالشوارع في النهار غيرها في الليل، قد يصافح يدك ضوء قمر طالع من بيت الجبل وأنت تشرب كأس شاي منعنع ب"وطاء الحمّام"، وقد يدعوك إلى جولة للانطلاق الحسّي، بعيدا عن الضجيج المتصاعد. الليل هنا يحمل في جريانه المترامي ذكريات الإنسان والمكان. إنه تجسيد لقوى النّهر لتفرعاته وامتداداته. في الليل، تشعل المدينة كل الضوء لتحلّق بك، ولا تدّخر جهداً لتمنحك دفء نورها، هي كمن تبسط جناحاتها لك وترسم ترتيلة فرح على شفاه الوجوه، تصغي بانتباه شديد للخطوات، وتعلّق على مرمى النّظر طاقة الحياة وإرادة الحياة. في الليل لا تسأل عن الطريق، بل اسأل الليل والضوء معاً وامش في شوارع المدينة نحو الدهشة.. نحو أسرار العذوبة.