اعتدت كل صباح أحد وأنا الهارب من سحابة نوم ما زالت تتدثر وجهي، أن أضرب موعدا مع الصديق الشاعر إسماعيل أزيات ، موعدا نجرب فيه التيهان على حروف المكان ببلدتي شفشاون نقرأه بشغف ويصافحنا بمحبة درجا درجا ودربا دربا ونتطلع إلى تضاريسه وبهارات منازله ونغيب في العتمات ، تقودنا الخطوات صعودا نحو «سيدي عبد الحميد» ، هذا المتنزه المعلق بين السماء والأفق المترامي ، لتصبح المدينة من هناك طائرا عظيما يحلق بين أصابع الكف وعصا الريح، ونحن نرنو إلى الدور المتراصة كقطع الغيم الناصعة البياض. قد يصبح السفر إلى المكان أحيانا ، سفرا نوسطالجيا ، نتذكر فيه مرايا التيه وهي تعود بنا لنمسح عنها غبار السنين.. أو نشعل في لمعانها ظمأ السؤال... وقد يكون أحيانا أخرى هامشا نلوذ به من معارك العابر واليومي ومن خوف الأيام ونزيف الوقت... كنا نكتشف مع كل خطوة شموسا من الضوء تنمو في ذواتنا كأصابع الشتاء ولوحات من المعمار لا تشيخ مبثوثة هنا وهناك.. ووجوها تحمل أحلاما في ثياب الانتظار ، لننزل الأدراج مخترقين باب « المَحْرُوقْ» ، تجمعنا لحظات من غموض الصمت أو كلمات خفيفة في موضوع أو أديب أو كتاب... يهمس إسماعيل : ما أبهى طزاجة هذا الصباح ، فهواؤه يزيل عني فصول الدهشة ويشحن رئتي بالعذوبة. عند وصولنا إلى حي « أوْطِيوِي» أحد الأحياء العتيقة ، قادتني رغما عني رائحة الطفولة الهاربة نحو باب صغير ومتهالك. هنا كان الأب ينسج جلاليب الصوف المزركشة والبيضاء والشهباء، وكأن اليوم شبيه بالبارحة ،وأنا أرقب يديه في حركات بارعة وتمتمات متواصلة ، بل حتى حبات العرق اللامعة على جبهته ، وهو ينصت لموجات المذياع ويرسم غيمته الزرقاء الفسيحة. أبحرنا بين حواس المدينة على الطريق الصخري لنجد أقدامنا على حافة نبع « رأس الماء» ( هبة الجبل) الممتد والمنبسط على مهرجان من الخضرة اللامتناهية وحدائق من الهضاب المائلة وكروم اللوز والأحجار اللامعة كالأنصال ،الحارسة لقدسية المكان ومشهدياته. يجرنا النهر الزارع للبساتين على ضفافه إلى جسد هديره كباقي المتوافدين المتموجين بين محيطاته، وهو يهب المدينة الحياة والتجدد والاستمرار، فيما النساء والصبيات مشمرات عن أذرعهن يروين الحكايات بخجل ويغسلن الأثواب والأفرشة تفاديا لعدادات الماء الباهظة ، محافظات على تقاليد أجدادهن الغميسة. فالمكان هاهنا يمسي جانبا روحيا واستثناء يدعو الجميع إلى الهدوء وصفاء النفس ويطل بالحواس على أوراق الظل ويحفر في دواخلها حبق الحلم والمجاز. ارتكنّا إلى مقعد بجوار الوادي وغام كل منا في صمت مريب ونحن نصيخ لكلام الشجرات البليلة وسمفونية الماء البارعة... ولم يخرجنا من هذا السفر الداخلي إلا لعلعات أصوات الوفود الجديدة وصخب «الدّرابك» وبرق العدسات. قال إسماعيل: هل ننصرف؟ قلت : ما زال هناك المزيد من أقواس قزح في انتظارنا ..فلنواصل المسير...