في معظم فنون العرض، يظل تجريب « صناعة الفراغ «، بمعناه الجمالي، من أصعب الامتحانات التي تواجه أي فنان، وهو يأمل في نفسه تخطي عتبات امتلائه، أو بالأحرى امتلاء وسائط اشتغاله، في أفق مقاربة أسرار الفراغ وأبجدياته الغميسة والمرتفعة. وقد يصبح هذا الطموح المغامر مخاطرة حقيقية ومضاعفة، لا سيما حين يتعلق الأمر بممارسة إبداعية - مثل فن التصوير الصباغي ? تقوم، في عيون متلقيها، على الامتلاء، أو بالأحرى على ملء الحيز أو الفضاء، بما يمكن اعتباره خطابا يروم الإفصاح عن معنى ما. لذلك، يبقى مثل هذا الطموح الصعب يحسب في باب الفلتات أو المغامرات التي تعاكس مجرى السائد والمألوف والمتعارف عليه، خاصة داخل كثير من المجتمعات العربية، ومن بينها المغرب، التي لازالت ثقافتها البصرية لم تحز بعدُ وضعا اعتباريا راسخا، إن على مستوى المناهج والبرامج التعليمية والأكاديمية، أو بين مختلف فئات المجتمع على السواء. ويمكن وضع اليد على بعض مصادر وتجليات هذه الصعوبة، انطلاقا مما قاربه بعض الباحثين في الموضوع، وهم يتعقبون حضور مفهوم « الفراغ « في تأملات بعض أعلام المتصوفة، ممن راهنوا على استثمار إمكاناته في مجال التأمل، وضاعفوا مداخل عوالمه، بل أقاموا في أكوانه. وفي هذا السياق، يحضرني كتاب « الصوفية والفراغ: الكتابة عند النفري « للباحث المغربي الجاد خالد بلقاسم، كإسهام رصين وعميق يطمح، من ضمن ما يطمح إليه، إلى إعادة تنشيط هذا المفهوم، وفق تمثل تأويلي عاشق، من خلال المراهنة على حيويته والكشف عن إضماره، أمام المقولة السائدة التي تعتقد، بكل بساطة، بأن « الفراغ فارغ «، والحال أنه تجربة امتلاء تستشرف المار وراء، « ما وراء كل شيء، ما وراء الأحكام، ما وراء الضدية المنتجة لحجب الثنائيات « حسب الباحث بلقاسم، حيث يصبح « الفراغ « نتيجة لخروج من امتلاء هائل ومن خبرة وتجربة متحققتين. بهذا المعنى الصوفي العميق، يقدم لنا الفنان التشكيلي المغربي حكيم غزالي نفسه، ومن خلاله بعض ملامح تجربته الصباغية الراهنة، كأحد الفنانين المغاربة القلائل، الذين راهنو على توسل إمكانات الفراغ في بناء خطاب تشكيلي يروم زعزعة القائم والمكرس، فيما يمكننا اعتباره مخاطرة فنية جديرة بالقراءة والمقاربة والتأمل. فمنذ أعماله الأولى، راهن غزالي على المنفلت والهش والمهمل في بناء عالمه الصباغي، من خلال استدعاء ما يوقع على جدران الشوارع العامة من علامات وخربشات وتعبيرات - والتي عادة ما تبقى عرضة للامبالاة - إلى سند لوحته، وفق اشتغال عالِمٍ ونبيه، يقوم على إعادة استثمار منطوقها / خطابها العفوي الساذج بنظرة ذكية، بما يعنيه ذلك من تركيز دقيق على الجزئيات الدالة وعلى التفاصيل الصغرى، التي يمكن أن تمنح حياة أخرى لأشكال وعلامات وإشارات عفوية، ولبوح مهمل خطتها جميعها يد/ أياد قلقة عابرة. غير أن ما يمنح لهذا الاقتناص التشكيلي البارع للمهمل حياته الجديدة، في تجربة حكيم غزالي، كونه ينبني على تصور فني يروم أسلوبا إشاريا إقلاليا، يركز الفنان في صياغته على حنكة المحو ومهارة التنخيل، بالمعنى الذي يجعل من تحجيم القليل والاكتفاء بظلال الدوال أسلوبا تشكيليا مغايرا يروم مزيدا من التجريب المغامر، بما ينتج ويثير مزيدا من الأسئلة الإشكالية، إن في ارتباط بتجربة هذا الفنان الخاصة، أو بسؤال اللوحة والفن بصفة عامة. إلا أن هذا الطموح في بناء عالم صباغي يكتفي بالإشارة واللمعة التشكيليتين، سرعامنا سيعرف انعطافة صعبة وجريئة، في تجربة هذا الفنان الراهنة، وهي الانعطافة التي يمكننا وصفها بكونها تنشد الاستثمار في المناطق البعيدة، أي الإقامة في تلك المرتبة من الحدس والتأمل والصفاء الروحي التي تحوزها حالة الانخطاف، بمعناها الصوفي، باعتبارها لحظة ارتفاع وسمو وتخفف من إرباكات الواقع ومشاهداته المألوفة. وتظهر ملامح هذا النزوع الجديد لدى الفنان غزالي في لجوئه إلى تدريب ذائقته الفنية على ذلك النوع من الثنائيات الضدية التي تقود إلى عدم الاكتراث للشكل، والتي تصل إلى ما قد يبدو عدما، أو فراغا تاما، ونقصد بذلك ثنائيات البناء والهدم، الإقامة والسفر، الكتابة والمحو... وما إلى ذلك من الثنائيات غير المتناهية، والتي تنطلق من الممكن / الكائن لتصل إلى بقاياه أو بالأحرى إلى أثره، أو ما يدل على زواله، وعلى متخيل حياته السابقة. مثل هذا الإدراك ليس بالسهولة المتصورة، كما أنه ليس في متناول اليد المتسرعة، التي لم تُحصِّل تجربة ما أو تَحُزْ معرفة، أو تراكم أفكارا تملكت - بهذا القدر أو ذاك - نصيبا من النضج ومن الحيوية، وإنما هو نتيجة وخلاصة متقدمة لكل ذلك وسواه، في سبيل التخلي عن بعض زوائده ومعيقاته التي قد تربك مسعى التجربة إلى « الخروج من زمن امتلاك الشيء إلى زمن التحرر منه «. من هنا، يبدو أن أعمال غزالي لا تبعد كثيرا عن بعض تجليات هذا الطموح، ولو من باب التجريب الحذر الذي لا يعدم شرط المغامرة. فمجمل إنتاجه الصباغي الأخير يدنو بمعرفة ملموسة من هذا الإنجاز. ذلك أن سطح اللوحة الذي يقدم نفسه متخففا من كل شكل أو لون أو علامة أو حركة، والذي يوهمنا بكونه مجرد فراغ أملس ومسطح، ليس كذلك، إنه فراغ خادع وملتبس ومموه، وهو إلى ذلك يتطلب محاولة إقامة علاقة مشاهدة نبيهة ومغايرة معه، أي محاولة الاقتراب أكثر منه واستعمال مختلف الحواس لتمثله، لقراءته والنفاذ إلى أسراره الخبيئة. بهذه الطريقة - وبهذه الطريقة وحدها - سنكتشف أن ما يقدم نفسه باعتباره فراغا، أو بالأحرى ما نتصوره كذلك، هو - في العمق - بناء مضن، شاق، متواصل وحثيث، لطبقات من المواد والألوان والعلامات والخربشات والذبحات واللطخات، بناء أسس لوجوده في حياة سابقة، ولم يبق منه، بفعل إعمال الآلة النشطة لتقنيات التشييد والكشط والمحو، سوى هذا الفراغ، الذي تحيلنا بعض تجلياته على ذلك النوع من « الفراغ « الذي رأى فيه النفري ? ذات تأمل ? كل القوة، كل الاتساع وكل النور. فهو، بذلك، مسعى نحو تشييد سلسلة من القطائع مع ما يجعل روح الإبداع رهينة الأشياء والأشكال والانتظارات الخادعة. إنه انفلات واع وناضج من الرتابات ومن الأحكام ومن السلط على اختلاف مصادرها وتجلياتها. إن ما يجعل تجربة حكيم غزالي جديرة بالتأمل والإنصات، وما يمنحها كذلك طابع الجدة وروح المغامرة، كونها تنزع نحو صفاء الإشارة ونحو الخفة الدالة ? في العمق - على الاكتظاظ والامتلاء، وهي ممارسة حازها هذا الفنان، بعد مساره إبداعي جرب خلاله بعض ممكنات التصوير، كذريعة، قي تقديرنا، للوصول إلى فراغ اللحظة الراهنة، وما يقتضيه ? حسب تعبير صديقنا خالد بلقاسم دائما ? من صبر شاب، على اعتبار أن المخيف في الفراغ هو ما يتطلبه الطريق إليه. *فنان وباحث تشكيلي في ضوء هذه الأسئلة، يُبلور الناقد المغربي هشام العلوي مداخل نظرية ومقاربات تحليلية لإضاءة القضايا الإشكالية المرتبطة بتيمة الذاكرة، والمساهمة في فهم أبعادها الشائكة وتجلياتها المتعالقة، دون إغفال أن راهنية سؤال الذاكرة عموما، يمليها النقاش الذي يمور داخل المشهد الثقافي والسياسي الوطني حول ظلال الأمس وعتمات الماضي، وضرورة استحضار «واجب الذاكرة» في كتابة التاريخ المعاصر للمغرب. يبدو الحديث عن الذاكرة في صلب الممارسة الإبداعية عموما، والكتابة التي ترتسي شعريتها على المحكي خاصة ، ضربا من تحصيل الحاصل، إذا ما اعتبرنا هذه المقولة مجرد تعيين لمفاهيم من قبيل: الواقع والحياة والذات والمعيش واليومي والماضي والتاريخي والتوثيقي...وغيرها من الاستعمالات الاستعارية؛ بحيث لا أحد يجادل في أن الذاكرة، بهذا المعنى، هي منطلق كل عمل أدبي، ومعينه الأساس في بنْينة اقتصاده الدلالي والشكلي وتشييد عوالمه المتخيلة، وكذا سنده في تفعيل مختلف المواصفات الشعرية المجردة التي ستمنحه «أدبيته» طي جنس من الأجناس. إلا أن التفكير في هذه المقولة من خلال تحققاتها داخل المنجز السردي المغربي، وفي ضوء المعرفة أو المعارف المستلهمة من الحقول العلمية التي اشتغلت عليها، من نحو علم الاجتماع والأنتروبولوجيا والتاريخ وعلم النفس والتأويلية ، من شأنه أن ينتشلها من سياق البداهة هذا إلى سياق الاستشكال، ويعيد النظر في مفهومها ووظيفتها وعلاقتها بباقي مقومات النص الإبداعي. مع العلم أن توجيه الاهتمام صوب سؤال «الذاكرة» سيأتي متأخرا، إذ إنه لم يصبح موضوعا للتفكير والدراسة، وهاجسا داخل الأوساط الأكاديمية والاجتماعية والسياسية إلا مع نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وبروز ما يُنعت في الأدبيات النقدية والتاريخية ب»التضخم الذاكراتي». ومن هنا تنصب للذاكرة ملامح وخصائص، يمكن حصرها أهمها فيما يلي: 1- إن الذاكرة ليست متطابقة مع الواقع ومعادلة للماضي أو الحياة ككل، بقدر ماهي وعي بهذه المرجعيات، وإدراك منظم لتشابكاتها وتعقداتها، وخبرة حول معطياتها وقوانينها، تحتكم إلى كفايات الحواس في نسبيتها وجزئيتها. وبالتالي، فإنها تمثل معبرا لازما وضروريا بين الواقعي والتخييلي، إن لم نقل إنها المرجع الوحيد التي تحيل عليه الكتابة، والمتبقي من ذلك الكيان المنفلت والمتدفق والمتلاشي، الذي نسميه: «الواقع». وتبعا لذلك، فإن مجموعة من المؤلفين يستحضرون هذه الحقيقة عندما يصرحون في أعمالهم أو في نصوص موازية لها، بأنهم يحكون عن ذواتهم وعن الآخرين في مرحلة الطفولة والشباب، بما انطبع عنها في ذاكرتهم وليس كما كانت أصلا في الواقع. 2- إن الذاكرة لا تكتفي فقط بحفظ الأفعال والأحداث والأمكنة والأصوات والأشياء كما هي في سيرورتها الموضوعية، أو كما حصلت في تاريخها الطبيعي، وإنما تضفي عليها كذلك، عند تخزينها، قيما إيجابية إضافية قد تكون وجدانية أو ثقافية أو ذهنية، أو نابعة من المتخيل في بعديه الشعوري واللاشعوري، الذي يسود المجتمع سلوكا وتصورا. ولعلّ هذه الأنساق التوسطية التي تتدخل في عملية بناء الذكريات، تجعل من الحافظة بوتقة حيث تنصهر جملة من التقاطبات: الموضوع والذات، الفعل والإحساس، الواقعة والاستيهام، المعنى والتأويل... وهكذا فإن الذاكرة لا تسعف الكاتب بمادة خام بقدر ما تهيئ له نموذجا مبنينا يتلبس طيه الوجود المادي الأمبريقي بالوجود العاطفي والرمزي، مما يفيد بأن عملية التنصيص ستشمل عالمين متعالقين ومختلطين، عالم مرجعي صرف سيخضع للمعالجة ثم التجاوز. وعالم خيالي سيتم تحققه عبر الأوعية الشكلية والمصافي الأجناسية المختارة لحظة الكتابة. ومن ثمة، يتلون فعل التذكر بالأهواء والتحيزات والافتراضات والأوهام التي تطفو على السطح وكأنها بديهات وقعت فعلا، فتنمحي التخوم بين الماضي وما انتسجه الخيال لتسريح القابع والمسكوت عنه والمحلوم به. 3- إن الذاكرة، إذن، ذاكرات متساوقة ومتقاطعة يمكن إرجاعها إلى أصناف وأنماط كالتالي: * ذاكرة الجسد والحواس (المسموع والمرئي والملموس)؛ * ذاكرة الرغبة وما يتمخض عنها من أحلام وأحلام يقظة تخترق رتابة اليومي وخطية الزمن؛ * ذاكرة الإخفاقات والكوابيس والمخاوف والوساوس والهواجس؛ * ذاكرة العادات السرية والجزئيات المنسية واللحظات الميتة؛ * ذاكرة اللغة والمقروء والمكتوب ومختلف أنواع الخطاب؛ * ذاكرة الطقوس وآداب السلوك والمعتقدات والرموز؛ * ذاكرة الوقائع والظواهر التي تنتمي إلى التاريخ أو الأسطورة أو الموروث الشعبي؛ * ذاكرة اللغات الهامشية التي تغطي مساحات خارج دائرة المسموح به والمعتبر...إلخ. والملاحظ، أن المحكي عندما يستعيد لحظة ما من الحاضر أو فترة معينة من مسار الذات الكاتبة أو المجتمع، لابد له أن يقتات من هذه الأنماط كلها، ولكنه مجبر أيضا على التشديد على أحدها وتغليبه، في ضوء ما يقتضيه الجنس السردي الذي يؤطره وينكتب داخل حدوده. واستنادا إليه، يستخلص هشام العلوي أن الأعمال ذات النسب الأوطوبيوغرافي مثلا، تهيمن على محكياتها الأنماط التي تصب في منحى التعبير والبوح والاعتراف والشهادة. بينما ترتكز الأعمال التي تندرج ضمن نوع الرواية، على اختلاف أشكالها من حيث الصيغ والموضوعات، على الأنماط الذاكراتية التي تدخل في نطاق التشخيص والتأريخ والتوثيق. هذا، وإذا كانت الذاكرة - بناء على ما سبق عرضه بصددها من ملامح وخصائص- هي سبيل الواقع الهارب والمتلاشي إلى تجربة الكتابة وأفق الأدب، وكيان مركب ومتعدد المكونات والأبعاد حيث يتواشج الشيء بالوعي الملازم له، فإن تنصيصها أو تحويلها إلى قيم جمالية ووحدات نصية، يزيد في توسيع وتعميق الهوة التي تبعدها عن الواقع، حتى ولو تعلق الأمر بالأعمال التي تدعي كونها سيرا ذاتية خالصة وشفافة. من المؤكد أنه في «الأوطوبيوغرافيا» احتفاء بالذاكرة وإنقاذ لها من خطر التآكل والتلاشي والنسيان الذي يتهددها باستمرار، وشوق نرجسي إلى البدايات، إلى الرحم والجسد، إلى التجارب المبكرة، إلى كينونة المِؤلف من أجل بعثها في الحاضر وإيلاجها قدر الكتابة. وهنا يتدخل الآني بمعجمه ورؤاه وقناعاته في صياغة مخزون الذاكرة، إذ يتعسر على المؤلف استحضار ماضيه من غير أن تتسرب إليها معطيات حاضره، أو تعالجها خبراته الراهنة. بيد أن الذاكرة مهما توثقت صلتها بالذات والحياة ومارت بالحقائق، لابد أن تستغرقها قوة محايدة تمحو أصولها أو تعتمها، وتنأى بها عن الحميمية والدقة والكلية نحو مدارات الغياب والفقدان وتستبدل النكوص بالاستشراف والتأسيس. يقول «رولان بارت» عن هذه القوة التي نسميها «التخييل»، والتي تغدو «الشهادة» في قبضتها أثرا أدبيا ينشد الفن والمطلق، ما يلي: «الكتابة قضاء على كل صوت، وعلى كل أصل. الكتابة هي الحياد، هذا التأليف واللف الذي تتيه فيه ذاتيتنا الفاعلة. إنها السواد-البياض الذي تضيع فيه كل هوية ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب». وبعبارة أخرى، فإن إخضاع الذاكرة لمسار الدوال ومقتضيات الشعرية والخطاب، من شأنه أن يدفع الكاتب إلى البحث عن معادل لغوي وأسلوبي لحياته الشخصية مما يزيل عن الأحداث والأحاسيس المستعادة الخصوصية أو الفرادة التي تميزت بها وقت وقوعها، ويضفي عليها شيئا من التعميم والمفهمة كي تكتسب وجودها المجرد، وتستمد إبلاغيتها. هكذا تتقلص الذاكرة، وتخترقها الانحرافات والانزياحات، ويعاد تركيبها وترتيبها زمنيا ودلاليا وفق ما يستلزمه مطبخ التخييل. وهب، أن الكتابة تبعا لذلك تمسي وسيلة لنسيانها، والتحرر من قيودها أو التخفيف من وزنها الضاغط على الأقل. ومن المؤكد أن أصحاب السير يفطنون إلى هذه الفسحة التي تتيحها الكتابة للتخلص من أسر الذكريات سواء كانت سلبية أو إيجابية، فترتسم أمامهم فرصة الإفلات، وإمكانية البداية من جديد، ولو اقتصر الأمر على الحلم والوهم والإبداع. لم أقتصر في هذه السطور سوى على الملامح العامة لكتاب الناقد هشام العلوي الذي يغري بالقراءة لغزارته ومتعته. وكان الأستاذ الراحل، الذي رأى النور بفاس أواخر الأربعينات، قد تخرج من كلية الآداب ظهر المهراز في أوائل السبعينات وعمل أستاذا للثانوي في مدينة مكناس لعدة سنوات قبل أن يحصل على دبلوم الدراسات العليا في الأدب العربي سنة 1982 وينتقل للتدريس بكلية الآداب بالرباط حيث سيناقش دكتوراه الدولة سنة 1992 ويقضي حوالي ربع قرن من العمل الدؤوب استغرقه في تطوير درس الأدب العربي والإشراف على الأطروحات وممارسة أشكال الإشعاع الثقافي بكل الإخلاص والتفاني المعروفين عنه.. وعندما انخرط بلمليح في مجال البحث الجامعي وجد الساحة الأكاديمية المغربية تشكو من القطيعة البائنة بين المشتغلين بالأدب القديم وزملائهم العاملين على الأدب الحديث فقرر التصدى، رفقة زمرة من مجايليه كمحمد مفتاح ومحمد العمري، إلى تقليص المسافة بين هذين الفريقين عن طريق ممارسة نوع جديد من البحث يقوم على الاشتغال على نصوص التراث العربي، الشعري والنثري، بواسطة مفاهيم عصرية مستجلبة من النقد الغربي الحديث.. وقد ساعده على النجاح في هذه المهمة كونه عُرف بتضلّعه في التراث العربي القديم منذ فترة شبابه بتأثير ورعاية خاصة من أستاذه أمجد الطرابلسي الذي حبّب إليه، وإلى أجيال الطلاب المغاربة، تذوق النصوص الأدبية القديمة وتثمين ما تحفل به من قيم جمالية وفكرية..وكونه تلقى دراسة مزدوجة اللغة أتاحت له أن يظل على صلة بما ينتج من بحوث ودراسات باللغة الفرنسية في المجالات الأدبية والنقدية المختلفة.. وهكذا جاءت أعماله الأكاديمية تحمل ذلك الطابع المتميز الذي يجعلها تلتفت بمزيد الاهتمام إلى التراث العربي القديم في نماذجه الأكثر بهاء وتمثيلا، وفي نفس الوقت تغامر بتجريب أكثر المناهج حداثة في مناولة ذلك التراث وتحليل إوالياته وبيان سحره الذي ظلت الطرائق التقليدية في البحث عاجزة عن استكناهه بسبب محدوديتها ونقصان وجاهتها. فعل ذلك في أطروحته الأولى وباكورة إنتاجه اللامعة «الرؤية البيانية عند الجاحظ» (1984) عندما سعى إلى استلهام المنهج البنيوي التكويني العائد إلى لوسيان غولدمان، وخاصة مفهومه الانقلابي «رؤية العالم» الذي مكّنه من دراسة رسائل باسكال وتراجيديات راسين من خلال انتمائهما لعصر النهضة وانتسابهما لمدرسة بور روايال أي في علاقة بالواقع السياسي والاجتماعي الذي أنجبهما وأتاح لعبقريتهما أن تتفتق..فكانت دراسة بلمليح لبيان الجاحظ تتجاوز القراءة الأفقية لتأخذ في الاعتبار انخراطه الصميمي في زمنه الذي هو العصر العباسي طبعا وشجرة نسبه الفكرية التي تشخّصها علاقته بالمعتزلة كتيار فلسفي وفكري.. وقام بنفس الصنيع في أطروحته للدكتوراه التي أقامها حول «المختارات الشعرية وتلقّيها عند العرب من خلال المفضليات وحماسة أبي تمام» (1995) حيث استفاد من نظريات التلقي والتواصل الحديثة لكي يكشف عن حقيقة الدوافع الفنية والتذوقية التي تحكمت في اختيارات أصحاب المنتخبات، وهم هنا المفضل الضبي والشاعر أبو تمام، وصولا إلى ملامسة ما يمكن أن يكون نواة لنظرية أدبية قائمة بذاتها في هذا الوقت المبكر من تاريخ الأدب العربي..وهو قد نال عن هذا العمل المتحفي جائزة عبد العزيز البابطين في دورتها السادسة سنة 1998. وقريبا من هذا السياق الذي يجسّر الهوة بين تراث الماضي ومفاهيم الحاضر قام الراحل بإنجاز ترجمة رائعة حقا من الفرنسية إلى العربية لأطروحة أستاذه الدكتور أمجد الطرابلسي (1916-2001) المسماة «نقد الشعر عند العرب حتى القرن الخامس الهجري» (1945)، وقلنا «رائعة» لأنه حررها بطريقة لا يبدو عليها قطعا أنها ترجمة وإنما عمل بحثي خالص لوجه الدرس العلمي الذي من المفترض في مَن ينهض به أن يكون على جانب هائل من المعرفة والاطلاع على أسرار المتن التراثي والأساليب النقدية، وقد كوفئت هذه الترجمة كذلك بجائزة المغرب الكبرى في هذا القطاع. وبما أننا في موقف تأبين لا يقبل بالإطناب، فإننا نذكر على وجه السرعة بعض الأعمال الأخرى التي خلّفها الأستاذ الراحل ومنها بالخصوص كتاب «البنية الحكائية في رواية المعلم علي» (1985)، وكتاب «من التركيب البلاغي إلى المجال التصوري عند عبد الله راجع»(1995)، و»قراءة في القصيدة التقليدية»(1999)، و»القراءة التفاعلية: دراسات لنصوص شعرية حديثة» (2000)، ودراسات أخرى كرسها لشعراء تقليديين من منطقة الخليج.. وحتى لا نغمط الرجل فضله، وهو الآن في دار البقاء، علينا أن نلتفت بالإشارة الودودة إلى مشروعه الروائي الذي خاض فيه بكل روحه الإبداعية الغامرة التي لم تترك مهمات البحث المعقدة والمضنية تغطّي عليها..فقد نشر قيد حياته خمس روايات لعل أهمها في رأي النقاد روايته «خط الفزع» (1998)، مسبوقة بروايتين هما «الوردة والبحر»(1985) و»القصبة» (1987)، ومتبوعة بروايتين هما «مجنون الماء» (2004) و»الجسد الهارب» (2007)، بينما يذكر المقربون منه رواية سادسة وأخيرة فرغ منها ولم يقم بنشرها جعل لها عنوان «احتفالية العيون»..وتدور جميع هذه الروايات، التي للأسف لم تلق حظا كبيرا من النقد، في فلك هواجس جيل السبعينات الذي عانى طويلا وكثيرا من طاحونة القمع والاضطهاد.. وأخيرا لابد لنا أن نذكر أن الراحل العزيز، بعد أن زهد في الوظيفة وغادر في مَن غادر الجامعة المغربية سنة 2005، قد انخرط في مشروع ثقافي ظل يحلم بتحقيقه لسنوات طويلة وهو إنشاء دار للنشر والتوزيع باسم «زاوية الفن» وذلك في سياق نضاله من أجل مؤسسة مغربية للكتاب تكون مستقلة وتنعم بالمردودية العادلة..ومع أنه قد نشر أكثر من ستين مؤلفا ضمن هذا المشروع فيبدو أن لم يجن من وراء ذلك سوى المرارة والخسارة.. وأما بعد، فقد خسرت الجامعة المغربية برحيل إدريس بلمليح أستاذا محنكا وأكاديميا ألمعيا غزير الإنتاج، وخسرنا نحن زملاءه صديقا عزيزا وأخا وفيا يُعتمد عليه في الملمات، وعزاؤنا فيه طيب ذكراه وآثاره الباقية.