ارتبط اسم الفنان العالمي كلاوديو برافو كاموس، المزداد سنة 1936 بالشيلي، بمدينة تارودانت بجنوب المغرب التي اختار أن يقيم بها خلال حوالي خمس عشرة سنة الأخيرة من حياته إلى أن ووري بها جثمانه الثرى سنة 2011، فأنشأ بها قصرا على مساحة عدة هكتارات صمم وأشرف على تهيئتها على شكل فضاء طبيعي ومعماري متميز، يضم محترفه الذي كان يشتغل به طيلة هذه السنوات، ومتحفا يضم العديد من أعماله الصباغية ومقتنياته من التحف الفنية والمنحوتات والمصنوعات التراثية، إضافة إلى مساحات مهيأة تضم فضاءات خضراء وأغراس الأشجار وقبة "منارة" مطلة على صهريج أرضي كبير، مما يضفي على المكان بعدا وقيمة مجالية (Paysagiste) كبيرة ومبهرة. كما يقترن اسم كلاوديو برافو في تارودانت ببعده الإنساني، حيث إن مقام الفنان بالمدينة لم يكن مجرد إقامة شخصية عابرة، أو انزواء فني متعال، فإضافة إلى أثره المعماري والمتحفي وإنتاجه الفني الذي سيظل يشهد على ذلك، أقدم الفنان خلال هذا المقام على عدة مبادرات اجتماعية بالغة الأهمية والدلالة، ومن ماله، منها تشييد جناح بالمستشفى الإقليمي بالمدينة لفائدة المرضى، وبناء وترميم مدارس، ووضع تصميم تهيئة ساحة 20 غشت التي تحتضن العديد من المهرجانات والحفلات الموسيقية والثقافية التي تعرفها المدينة على مدار السنة، مما يضفي على علاقة كلاوديو بتارودانت سمة إنسانية وعمقا ثقافيا ذا قيمة هامة ورمزية خاصة. عتبة القراءة ذكر كلاوديو برافو في إحدى حواراته عندما قرر الإقامة بتارودانت، بعد أن أقام للعديد من السنوات بمدينة طنجة ثم مراكش، أن السبب الأساسي وراء هذا الاختيار هو إعجابه بدرجة الإضاءة التي تميز طقس ومجال المدينة التي تعرف على امتداد السنة أكثر من 362 يوما من أشعة الشمس والضوء الناصع. ولعل هذا الإحساس والبحث عن إلهام ضوئي، وأثره البصري والتشكيلي، بعد مسار من التنقل والاشتغال الصباغي بين أمكنة عديدة، بدءا بالشيلي بجنوب أمريكا موطنه الأصلي، وإسبانيا التي قضى بها جزء كبيرا من حياته، وصولا إلى شمال المغرب ثم جنوبه، هو ما يميزه ويتجلى من خلال مساره التشكيلي وتجربته الإبداعية التي عرفت تحولات في اختيار المواضيع وطرق المعالجة الصباغية، خاصة في مرحلة الإقامة بتارودانت كما سنحلل ذلك لاحقا. من خلال تتبعنا لبعض الكتابات التي تناولت أو أشارت إلى تجربة كلاوديو برافو الصباغية، يتضح نوع من الصعوبة التي يطرحها تصنيف أعماله وتحديد خاصيتها الأسلوبية وانتمائها النقدي والمفاهيمي انطلاقا من المدارس والحركات والمقاربات المتداولة في تاريخ الفن ومجال النقد التشكيلي. فبعض هذه الكتابات والإشارات النقدية تكتفي بالحكم الوصفي العام من خلال إدراج أعمال كلاوديو ضمن "الواقعية" أو "الواقعية المفرطة أو الجديدة" (L'hyperréalisme)، ويكفيها هذا التصنيف لتنزع عنها صفة التجربة المعاصرة التي كثيرا ما اقترنت في التقليد النقدي بالأساليب التجريدية والبعد عن التشخيص وإنتاج الأثر المفتوح على القراءة والتأويل. وإذ أننا نتحفظ على توظيف هذه التصنيفات والمفاهيم عندما يتعلق الأمر بالفن والتجارب التشكيلية المعاصرة، فإننا سنحاول التوقف عند أعمال الفنان وأثره التشكيلي في حد ذاته لنستخلص منه ما يميزه على مستوى المقاربة التأملية والصباغية واختيار ومعالجة مواضيعه، استنادا إلى أدوات ومفاهيم تحليلية وانطلاقا من اعتبار "الضوء" و"التأمل" هما المفهومان الصباغي والجمالي الأساسيان في استجلاء مميزات تجربته ونماذجه المصورة وعمق أثره، وفي علاقته بالمكان والزمن ورؤيته للأشياء والعالم. وسننطلق من بعض التحديدات الاصطلاحية والمفاهيمية للتأسيس لمقاربتنا التحليلية، ولإضاءة الأسئلة التي تطرحها أعمال كلاوديو، خاصة على مستوى اللبس الذي يحيط بتناولها أو تصنيفها، والاكتفاء بالانطباع والحكم النقدي العام، الذي يحول دون النفاذ إلى عمق الأثر ومسار إنتاجه، ومقوماته التشكيلية وإيحاءاته الفلسفية والجمالية. الواقعية.. حدود المفهوم وسياقه التاريخي يرتبط ظهور الواقعية في تاريخ الفن كحركة تشكيلية خلال القرن التاسع عشر بالسعي إلى الخروج من حدود التقليد الكلاسيكي الجديد الذي كان الاشتغال الفني خلاله يعيد إنتاج النظرة الكلاسيكية للموضوع والمقاربة الصباغية، ولوظيفة الفن والفنان في حد ذاته، ومن حدود الموضوع والتناول الرومانسي الموغل في الأحاسيس والمثالية، حيث كانت النماذج و"الموديلات" والمواضيع التي تستأثر بالقيمة الجمالية والتناول الفني تقتصر على مجال الحياة الدينية والأرستقراطية والميثولوجية، من خلال تشخيص بورتريهات الشخصيات، وتمثيل الملاحم والقصص والأحداث التي كانت تحظى بقيمة رمزية وعقدية أو سياسية، وبالهالة والتعالي الأسطوري في المجتمعات وحياة البلاطات والكنائس والنبلاء. ولم يكن دور الفنان بمهاراته التقنية والتصويرية العالية يخرج عن حدود الموضوع الجمالي والتراتبية القيمية السائدين، كما كان دوره التجسيدي هو إنتاج "الجميل المثالي" انطلاقا من التصور والتقليد الإغريقي والروماني، وإضفاء الهالة البصرية عليها. وكان هذا التقليد وحدود التناول والجمال الكلاسيكي المتعالي ثم الرومانسي المثالي، هو السبب في ظهور الواقعية كرد فعل فني حاول من خلاله المصورون تناول الواقع الاجتماعي وتغيير النظرة إلى المفهوم والموضوع الجمالي، فاشتغلوا على المشاهد البسيطة والمألوفة كالفئات الدونية والفلاحين والعمال، والمواضيع التي كانت تعتبر غير جديرة بالتصوير والتناول الفني، كما توضح اللوحات الشهيرة لكيستاف كوغبي "كاسرو الحجارة" و"أصل العالم"... الواقعية الجديدة.. سياق الحركة في مجتمع الصورة تعود تسمية الواقعية الجديدة (Le nouveau réalisme) إلى الناقد بيير رستاني والفنان إيف كلاين اللذين وظفا هذه التسمية سنة 1960 خلال المعرض الجماعي الذي أقيم برواق أبولينير بميلانو بإيطاليا. وقد أعلن الفنانون العارضون من خلال بيانهم الذي عنونوه ب"إعلان تأسيس الواقعية الجديدة" أن هذه الحركة تسعى إلى تقديم واعتماد مقاربة إدراكية جديدة للواقع، وإلى إعادة إنتاج أو إبداع الواقع البصري، الحضري والصناعي والإشهاري الجديد، في صيغ تشكيلية وشاعرية بتوظيف مختلف الخيارات اللغوية والتقنية المعاصرة. فتتمثل الخاصية الأساسية للواقعية الجديدة، التي تعرف أيضا باسم "البوب أرت" (Pop art)، في اشتغال الفنان التشكيلي لأول مرة بالواقع البصري الجديد، وبمختلف الحوامل والوسائط والانتاجات التي تؤثث المجال الحضري والفضاء العام والقنوات والواجهات في المشهد اليومي بالمدن الكبرى، سواء ذات وظيفة تواصلية وإشهارية أو المرتبطة بالصناعة السينمائية والتلفزية والإعلانات وصناعة النجومية. حيث أدرك التشكيليون أنهم لم يعودوا يحتكرون إنتاج الصور، وأن مهمتهم الإبداعية لا يمكن أن تظل مختصرة في التقنيات والمقاربات الصباغية التقليدية وفي منأى عن محيطهم التواصلي والوسائطي الجديد، فحاولوا الاشتغال على مظاهر الوفرة والتضخم البصري والصناعي الذي ينافسهم في وظائفهم كمنتجي الصور، من خلال إعادة توظيفها في إنتاجات تشكيلية انطلاقا من مقاربات جمالية وتقنية، تضفي على إبداعاتهم طابعا شاعريا وجماليا أو نقديا باعتبار الفنان منتجا للجميل البصري الذي يتجاوز حدود "الآلية" والوظيفة التواصلية والصناعية للشركات والوسائط في مجتمعهم المعاصر. الواقعية المفرطة.. السياق وحدود المرئي تعود بداية استعمال مصطلح "الواقعية المفرطة" (L'hyperréalisme) إلى التاجر والرواقي البلجيكي إزي براشو الذي وظفه كعنوان لمعرض كبير أقيم برواقه بمدينة بريكسيل ببلجيكا خلال سبعينات القرن الماضي، لكن امتداد الحركة وانتشار الواقعية المفرطة كمقاربة وتقنية فوتوواقعية (Photoréalisme)، ترتبط بأواخر القرن العشرين، خاصة من خلال أعمال الفنانين الأمريكيين كدونيس بترسون وريشار إزت وشوك كلوز وآخرون. وترتبط مقاربة الواقعيين الجدد بمقومات التشخيص فائق الدقة للموضوع المرئي، حيث تتجاوز تمثيلاتهم الصباغية حدود التصوير الفوتوغرافي من خلال تناول التفاصيل الدقيقة في المواضيع والمشاهد المرسومة، ومحاولة إضفاء توهيمات مرئية على تفاصيلها التشخيصية، وملمحا من الأناقة والحيوية التشكيلية التي تغيب في الفوتوغرافية والنماذج المصورة. كلاوديو برافو.. حدود التصنيف النقدي وعمق الأثر الفني انطلاقا من الإضاءات النقدية السابقة، يطرح السؤال: هل يمكن توظيف مفاهيم "الواقعية" و"الواقعية المفرطة" و"الواقعية الجديدة" في تناول وتصنيف أعمال الفنان كلاوديو برافو؟ إن مسعانا من خلال تناول هذه التحديدات الاصطلاحية والمفهومية انطلاقا من التصنيفات المتداولة في تاريخ الفن وحقل النقد التشكيلي هو التأكيد على الإطار النسبي للمصطلح النقدي، واستحضار سياقة التاريخي والثقافي، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتجارب والأعمال التشكيلية المعاصرة، حيث نؤكد على تحفظنا النقدي في إطلاق الأحكام المتداولة والتصنيفات العامة في تحديد وتسمية الأساليب الفردية، ونفضل الاشتغال التحليلي على الإنتاج التشكيلي والعمل الصباغي في حد ذاته، ومحاولة استخلاص مميزاته الجمالية والأسلوبية، باستحضار مسار إنتاج الأثر وعلاقة الفنان بالموضوع المرئي كما تفصح عنه أعماله وتجربته الإبداعية، وهذا هو الخيار النقدي الذي سنعتمده في مقاربتنا التحليلية لاستكناه مقومات اللوحة على المستويين التأملي والتقني في مسار الفنان التشكيلي كلاوديو برافو. لا شك أن مسار الفنان كلاوديو برافو عرف مراحل عدة، ومن خلال التوقف عند "ربرتواره" الصباغي الغني، يتضح أنه مر بفترات يمكن إدراجها في إطار الكلاسيكية ثم الواقعية المفرطة، خاصة خلال اشتغاله على البورتريهات، لكن المراحل اللاحقة فتحت مقاربته للموضوع التشكيلي وإدراكه البصري على تحولات تتطلب تحليل مقوماتها الجمالية والصباغية. كما حاول الكاتب الطاهر بنجلون توضيح ذلك في نص جميل حول تجربة كلاوديو، فالأمر لا يتعلق بالواقعية، ولا بالواقعية المفرطة، كما أن إثارة موضوع الفوتوغرافية هو أمر ممكن، لكن سيحيل ذلك على سوء فهم يسيء إلى الأثر الفني. فكيفما كانت درجة التشابه والتمثيل الصباغي للموضوع البصري، فإن الفوتوغرافية لا يمكن أبدا أن تكون مرادفا للوحة! قد نقبل جدلا، وفي إطار التصنيفات العامة للأساليب التشكيلية، خاصة التي تحيل على المفاهيم المتداولة في تاريخ الفن، بما في ذلك التجريد بأصنافه الهندسية والرمزية والغنائية، والتشخيص بأصنافه الكلاسيكية والواقعية والانطباعية...، بأن أعمال كلاوديو برافو تندرج في إطار نوع من "الواقعية المفرطة" التي تقوم على التشخيص الدقيق للموضوعات البصرية، لكن هل يكفي ذلك لاستكناه مقومات أعماله الصباغية والنفاذ إلى عمق الأثر والتجربة الإدراكية للواقع المرئي؟ جوابنا هو لا يكفي ذلك، لأن أعمال الفنان تختلف عن "الواقعية" في خصائص سياقها التاريخي ونظرتها الفنية وتناولها التشكيلي للموضوعات، وإن كانت تتقاطع معها في خيار التشخيص والمعالجة التقنية. كما أنها تختلف عن "الواقعية المفرطة" وعن "الكلاسيكية" باستحضار سياق إنتاج الأثر والمقاربة الإدراكية والتأملية للمرئي وترتيب الموضوع والواقع قبل معالجته وتشخيصه، وإن كانت أيضا تمتح منها بعض خصائصها الأسلوبية والتقنية في التمثيل والمعالجة الصباغية. لذا، وقع اختيارنا المنهجي على تناول أعمال الفنان في حد ذاتها، من خلال تحليلها في مسار إنتاجها وإبراز جانب من المقاربة التأملية التي أنتجتها. لا يقتصر عمل كلاوديو برافو على الاختيار والإعداد السريع للنماذج ومواضيعه التصويرية، ثم تشخيصها وفق قواعد الإنجاز وتقنيات المعالجة الصباغية، فقبل كل عمل ثمة مسار من التأمل ومحاولة إدراك تفاصيل الموضوع المرئي، والإعداد الدقيق للواقع وترتيبه وفق خيارات موضوعاتية وبصرية، تستحضر كل تفاصيله وتركيبته التشكيلية ومظهره الكروماتيكي والضوئي. تبرز بعض الصور التي التقطت للفنان بمحترفه وفضاء البيت والحديقة، وكذا شهادات مرافقيه وزواره، كيف أنه كان يقضي وقتا طويلا في تأمل تحولات أشعة الشمس من شروقها إلى انجلائها، وأثرها الضوئي وظلالها، وانعكاسها على الأشياء والمواضيع التي كان يعرضها، قبل أن يشرع في ترتيب "واقعه" ونماذجه، واقتفاء تفاصيل تجليها البصري وأثر الضوء ودرجات الألوان وانعكاساتها على المواد والحياكات، لينتقل إلى مرحلة المعالجة التشخيصية والتجسيد الصباغي للموضوع والمظهر المرئي. إنها لحظات تأمل وإدراك للمرئي، قد تمتد لأوقات طويلة، حتى يصير الشيء مجردا من موضوعه ووظيفته، ليصير مظهرا بصريا خالصا، حينها يكون قد صار قابلا للتشخيص والقبض على أثر الشيء وانعكاسه وصورته، وقابلا للتجسيد صباغيا على القماش. فكما يقول كلاوديو، يجب أن نعرف كيف نبتكر حتى عندما نعمل في إطار "الواقعية". والابتكار أو إعادة إبداع الواقع، يبدأ من اختيار شيء ما، أشخاصا أو طبيعة أو خضرا أو أدوات بسيطة، وتركيبها وفق ترتيب يستجلي تفاصيلها المرئية ودرجات ألوانها وإضاءتها، ووفق مصدر ضوئي خارجي مختار ومرتب بعناية، يسمح بانبعاث مظهر بصري دقيق يوحي بإحساس معين. فثمة طريقة ما لإخراج الأشياء من واقعيتها، وتجريدها من تقلها وحمولتها الموضوعاتية، وعزلها بحثا عن ملمح جمالي أو أثر ضوئي أو انعكاس تشكيلي، ثم تشخيص دقائقه في أثر فني مجسد على القماش. وكما تساءل الطاهر بنجلون، لماذا يهتم كلاوديو بأشياء بسيطة ويجعل منها نماذج وموضوعات للإبداع الفني، فأنجز مجموعة من الأعمال مثلا انطلاقا من العلب وأحجام الورق المقوى، مختلفة الأشكال والألوان، يرتب تركيبها ومظهرها البصري، ويقتفي تفاصيل بنيتها المسطحة ودرجات تغير ألوانها وتفاصيل مادتها وانعكاسها، لينتقل إلى تشخيصها ومعالجتها الصباغية بشكل فائق الدقة على مساحة اللوحة؟ أليست هذه الاختيارات الظاهراتية، والاكتفاء بالمواضيع البسيطة بغض النظر عن حمولاتها، خطوة في اتجاه التجريد؟ أليست إحدى إشارات كلاوديو كذلك بأنه يمتح من السوريالية رغم الطابع التشخيصي والواقعي لأعماله جديرة بالافتحاص النقدي وتحليل أبعادها التأملية؟ اشتغل كلاوديو خلال إحدى المراحل على أكوام من الأوراق، يطويها ويدعكها ثم يرتب مظهرها البسيط وفق تدرج ألوانها وانعكاس المصدر الضوئي الطبيعي على تفاصيلها المرئية قبل الانتقال إلى تشخيصها الصباغي. كما اشتغل كثيرا، ومن المقاربة التأملية نفسها، على موضوع الأثواب، يختار قطعا مختلفة الأحجام والألوان، أو ألبسة وأغطية أو ستائر، يمددها ويعرضها على حوامل، على الجدران والأبواب أو كرسي وأريكة ممددة، يرتب تفاصيل طياتها ودعكتها، ويبحث عن مظهر خاص لانعكاس الضوء والألوان، وعن تفاصيل غير مرئية أو غير مدركة، وكأنه يجردها من "ماديتها" أو يضفي عليها "واقعيته هو"، قبل أن يشرع في تمثيل وتشخيص تجليها البصري المنفلت، وجماليتها المدركة. إن الأشياء هنا ليست مواضيع بالمفهوم التقليدي ل"لموديل" التشكيلي، وللاشتغال الواقعي والواقعي المفرط، بل هي ذريعة (Prétexte) للقبض على تأمل بصري داخلي (Intra-visuel)، فما يهم أكثر هي الأشكال والألوان وأثار الضوء بعد أن يتم تجريد الشيء من موضوعه وثقله المادي والوظيفي، وتحويله إلى مظهر بصري وأثر تشكيلي خالص، كاف في ذاته وجماليته الشكلية التي يجسدها الفنان بدقة عالية على مساحة قماش لتصير أثرا فنيا. أما عن البعد السوريالي في علاقته بالموضوع والأشياء، وليس من خلال مقاربته التشخيصية وتناوله للواقع البصري الذي نحا في مراحل معينة نحو التجريد، فيكفي التذكير بالقول الشهير للفنان فرنسيس بيكون الذي يرى أن كل الكتاب الكبار، وكل الفنانين الكبار، يحملون في تجاربهم ورؤيتهم للأشياء وللعالم شيئا ما من السوريالية. فالتجربة الإبداعية، مهما كانت صيغ تحققها الفني، أي اختياراتها التعبيرية والأسلوبية والتقنية، تحمل في عمقها بعدا وجوديا وقد تخفي جانبا من علاقتها الإدراكية بالذات والأشياء والعالم من حولها، وقد يكون هذا مبعث القلق والألم أو اللذة التي تغذي تجربة الخلق والإبداع، والتي تجعل فنانا ككلاوديو برافو يجد الصيغة الأنطلوجية، أو بتعبير الطاهر بنجلون، يبدع الكيفية الأكثر أناقة لتجنب حالة الجنون التي تطارد الفنان. *باحث وناقد تشكيلي