"بابا! أية أغنية تود سماعها الآن؟". سؤال كان يتردد كل مرة أثناء حديث حورية مع أبيها في أيامه الأخيرة. كانت تغمرها غبطة متناهية ممزوجة بدموع حارقة تنسكب على خديها وهي تؤدي له أحد المقاطع لمطربته المحبوبة أم كلثوم. هاته العادة التي أضحت تتكرر كل يوم خلال الأشهر الأخيرة عبر المكالمات الهاتفية تجسد مدى الحب الكبير الذي يربط حورية بأبيها. "بابا" أو "بابا سيدو" (كما يحلو لأحفاده بتسميته) أو السي عبد المالك أو با عبد المالك كلها ألقاب أطلقت على شخص واحد. ذلك الشخص الطيب والمحبوب من طرف الجميع. بالإضافة الى صيته الطويل في الرياضة، كان المرحوم من عشاق اللحن العتيق. صال وجال با عبد المالك وتربت على يده أجيال وفي الأخير حتم عليه كبر سنه الانزواء في أحد أركان غرفته. محاطا بأسرته التي تكن له كامل الحب. فتجندت بناته ووقفن وقفة رجل واحد للعناية به والسهر عليه ليل نهار. لم يعد يشغل بال حورية – التي تقطن خارج الوطن- أي شيء سوى حالة أبيها الصحية. ماذا أكل؟ ماذا شرب؟ ماذا قال الطبيب؟ هذه هي نماذج من الأسئلة التي تستهل بها حورية حديثها الهاتفي اليومي مع أسرتها. يليه حديث مقتضب مع أبيها. كان هذا في بداية عزوفه. ومع مرور الوقت أخذت تلك الأسئلة مجرى آخر. هل أكل؟ هل شرب؟ وأصبح الحديث المقتضب معه في غاية الصعوبة. بدا جليا أن حالة با عبد المالك تتدهور يوما بعد يوم. ملامح وجهه ونحولته تظهر عبر الهاتف مدى تأثير الكبر على محياه. مما يزيد في تأجيج الشوق لدى حورية التي تتحصر بعيدة عنه. مستسلمة هي الأخرى للظروف الاضطرارية التي تولدت عن جائحة كورونا. وخاب أملها عندما ألغيت رحلتها التي كانت مقررة في بداية ماي. لعنة الله على هذه الجرثومة اللامرئية، التي زعزعت العالم بأكمله. وأحكمت السيطرة عليه بكل سهولة. وأضحت الموضوع الرئيسي المتداول في كل وسائل الإعلام. بل غزت البيوت أيضا وأصبحت موضوع حديث الأسر والأصدقاء. كان الأمل الوحيد الذي يراود حورية، هو فتح الحدود والتمكن من زيارة أبيها قبل فوات الأوان. بدأت الأخبار تتضارب من جديد حول فتح الحدود أو عدم فتحها. حجزت تذكرة سفر جديدة في الحال تحسبا لأي طارئ. بدأ الحديث حول إمكانية تخصيص بعض الرحلات للحالات الخاصة. بدأ الأمل إذن! وفي الآن نفسه يتزايد شوق حورية ويتلهف قلبها يوما بعد يوم للظفر بمعانقة أبيها العناق الأخير وتوديعه. سيكون لا محالة الوداع الأخير. ترى هل ستتحقق أمنيتها؟ قصدت حورية قاعة الجلوس في الصباح الباكر كعادتها في الأشهر الأخيرة. جفون أعينها كسيت بلون رمادي داكن يوحي لك بالعدد المحدود من ساعات النوم. لم يعد احتساء كوب القهوة الواحد يؤدي مفعوله كما كانت العادة كل صباح لتستهل يومها. هاتفها أصبح لا يفارقها ولو للحظة. تستجيب بسرعة خارقة لكل رنة دوت أو حركة انبعثت منه. مكانها المعتاد في ركن البيت لا تغيره تماما. تنتظر بلهف كبير ربط الاتصال مع أختها ومن ثمة أبيها. لا تبادر هي بالاتصال صباحا خوفا من إيقاظه. ولكن رنة الهاتف هذا اليوم لم تكن كالمعتاد. لقد باغتتنا وباغتت حورية بالخصوص في هذا الصباح الباكر. "بابا مات! بابا مات!" هكذا علت صرخاتها مدوية في أرجاء البيت. لم تقو حورية على كفكفة دموعها وهي تلوك الكلمات بحزن يثقب القلب. صعدت ونزلت وهي تصرخ بأعلى صوتها في كل جوانب البيت. صراخ وعويل مماثل يقابلها في الجهة الأخرى عبر الهاتف. وفجأة علت صورة المرحوم شاشة الهاتف المحمول حيث تعالى معها البكاء. إنها صورة لجثة هامدة. وهكذا تمت مواكبة مراسم توديع المرحوم با عبد المالك إلى مثواه الأخير بفضل الهاتف المحمول. طبعا يختلف الأمر كثيرا عن حضور الجنازة فعليا. ولكن شاءت الأقدار أن يحدث ما حدث! "وداعا بابا سيدو"! هذه إحدى معاناة الغربة. هذه المعاناة يصعب استيعابها وتصورها لمن لم يعش هذه التجربة المريرة. لمن لم يؤد ضريبة الهجرة. لكل هؤلاء أنحني إجلالا لصبرهم ومعاناتهم في مثل هذه الظروف.