قررت الكتابة ضد النسيان والكذب والخسارة والتواطؤ، قررت الكتابة لأن الأسوأ ربما لازال قادماً ليس فقط في سوريا ... هذا الكتاب ربما يلخص معركة شعب عازم على إنهاء دكتاتورية عمرت 40 سنة . شعب يتطلع للحرية، لكنه يغرق يوماً بعد آخر في الجحيم أمام أنظار مجتمع دولي غير مبال ... هذا الكتاب هو حكاية ربيع سوري بدأ كميلاد للحرية لينتهي في خراب جهادي له أبعاد وتداعيات إقليمية ودولية ... في منتصف دجنبر، كانت الأنباء القادمة من سوريا تتحدث عن هجوم وشيك لجيش النظام ضد حي بابا عمرو، قررت الذهاب هناك، على أمل أن ألتحق بالحي المتمرد وقت الهجوم. وكانت خطتي البديلة تتمثل في قضاء أسبوع إلى جانب مقاتلي الجيش الحر في بابا عمرو الذي يضم مقر قيادة كثيبة مهمة في منطقة حمص. كنت آمل أن ألتقي هناك النقيب عبد الزراق طلاس، الضابط المنشق الذي التقيته في الرستن في غشت الماضي، حتى أتمكن من فهم الطريقة التي تطور بها طلاس ورفاقه، والتأكد ميدانياً ما إذا كان الجيش السوري الحر يسير نحو الحرب الأهلية. لم يعد بإمكاني دخول سوريا إلا بطريقة سرية، فترة بعد اعتقالي بمطار دمشق في غشت 2011. اتصل بي عمر ليخبرني أننا نحن الإثنين مبحوث عنا من طرف عناصر مخابرات القوات الجوية. وتأكد من الأمر باطلاعه على مستوى صفحة خاصة على الفايسبوك ينشر عليها باستمرار المنسقون لوائح الأشخاص المبحوث عنهم، حتى يتأكد النشطاء إن كانوا موجودين على لوائح المطلوبين، كان اسمي واسم عمر على تلك اللائحة جنباً إلى جنب تحت القرار رقم 23184. ومنذ ذلك الوقت، دخل عمر الى السرية، وأجبر على العيش مختبئاً طيلة أشهر قبل أن يعتقل قرب دمشق. وبالنسبة لي لم يعد ممكناً الدخول إلى سوريا بالطرق الشرعية. عاودت الاتصال بالمهربين الذين تمكنت بواسطتهم من التسلل مرة أولى إلى البلد لمدة 10 أيام في منطقة حمص في أكتوبر الماضي، رفقة زميلتي مانون لوازو قصد إنجاز تحقيق لفائدة قناة فرنسا 2، أخبرت كذلك بعض النشطاء السوريين الذين حذروني من المغامرة، برأيهم، هذه الرحلة الجديدة تعني الانتحار نظراً لوضعيتي. شرحت لهم بأن تحركاتي ستكون محدودة، وأني أنوي الذهاب مباشرة للقاء رجال الجيش الحر في بابا عمرو، وأنني على العموم محمية بوضعيتي كصحافية فرنسية، أجابني أحدهم قائلا: »فرنسية أو غير فرنسية، لا يهمهم الأمر، رجال النظام يكرهونك ويريدون رأسك، رأسك غالي في سوريا، إذا ما وضعوا عليك يدهم، سيقطعونك أجزاء وسيرمونها في نهر العاصي، وسيخبرون سفارتك بأنك قتلت على أيدي الإرهابيين«. لا يهم، كنت أثق جداً في شبكتي من المهربين أوصى بهم بعض السياسيين اللبنانيي المعارضين لنظام بشار الأسد، وقبل شهرين تمكن رئيس الشبكة أبو رائد خلال دقائق ومن لبنان ارسالي على متن سيارة إلى زقاق في حمص، حيث تركنا لحالنا أمام باب »بيت آمن« كان مغلقا وعلى بعبد بضعة أمتار من حاجز للشبيحة، بسبب تهور مناضل وضع فيه كل الفريق ثقته، ورجال أو برائد فعالون سيدخلون إلى التراب السوري وسيسلموني إلى الجيش السوري الحر. اتصلت بالمنتجين الذين اشتغل لحسابهم في باريس كانوا دائما يساندون مشاريعي لكن هذه المرة نصحني رئىس التحرير وديا بنسيان سوريا لفترة وأخذ بضعة أيام عطلة في نهاية هذه السنة. 15 دجنبر 2011 انتظرت صديقتي كارولين بوارون في مطار بيروت ورغم التحديات قررت السفر. كارولين مصورة مرموقة تريد تغطية الثورة السورية سترافقني، قبل ذلك كان ضروريا المرور عبر منزلي ليضع ساعات لتأكيد الموعد مع المهربين، والتحقق من المعدات وحفض بعض الأرقام الهاتفية وتوديع أبنائي الوداع، سرنا في الطريق في اتجاه »مقيبلة« وهي قرية جنودية تقع في منطقة وادي خالد، في أقصي شمال لبنان وللوصول كان لابد من تفادي نقط تفتيش الجيش اللبناني الموالي جزئيا لحزب الله حليف نظام بشار الأسد، ومند اندلاع الثورة يحاول الجنود عزل منطقة وادي خالد عن باقي التراب اللبناني لاحتراء اللاجئين السوريين الذين يصلون إلى لبنان بأفواج متزايدة والحد من اتصالاتهم مع وسائل الاعلام الأجنبية، ويحاول الجيش اللبناني وقف تسلل المقاتلين إلى التراب السوري، لكن دون فائدة ومهربنا كان مبحوثا عنه بتهمة تهريب السلع، ولذلك كنا مجبرين على القيام بعد مناورات وأخد مسالك ملتوية قبل الوصول إلى وجهتنا. وصلنا في نهاية المطاف إلى مقيبلة دون مشاكل، سكان القرية الواقعة على بعد 300 متر من الحدود مع سوريا موالون كليا للثوار، وبيت محمود خزعل عمدة البلدة سابقا وعراب الثورة هناك، ممر ضروري »السيد العمدة« كما يناديه سكان البلدة، في الخمسين من عمره رجل بشوش يتصرف ويتكلم كرب أسرة مسؤول. قاعة الاستقبال بمنزل الرجل وكالعادة مسرح لزيارات متنوعة وعديدة لاتنتهي: فارون من الجيش النظامي السوري لاجنود يبحثون عن سكن، نشطاء مكلفون بنقل الأغذية والأوية إلى حمص، ومنطة والد خالد تشكل قاعدة خلفية حيوية بالنسبة للمعارضة السورية. حل الليل منذ ساعات عندما أخبرنا المهرب أننا سنطقع الحدود ابن العمدة السابق، بشار الذي يطلب منذ اندلاع الثورة مناداته باسم »بشير« اقترح أن يرافقنا نقطة العبور السرية بين البلدية، حيث كان مهرب آخر سوري في انتظارنا على الجانب اللبناني. بعد بضع دقائق بالسيارة وصلنا وأضواء السيارة مطفأة على الجانب اللبناني من وادي النهر الكبير الذي يفصل بين بلدة مقيبلة والقرية السورية »مشايرفة« خلال ثوان ودعنا مرافقينا تم تبعنا أ[مد المهرب مرافقنا الجديد قطعنا الوادي في صمت وكانت كل واحدة منا تحمل حقيبة ظهر فوق رأسها كان مجرى المياه ضعيفا لكنه كان باردا جدا، وقد تعرض النهر الكبير بالأخص لعمليات تلغيم عدة مرات منذ بداية الثورة مهربنا السوري لا يتعدى عمره 20 سنة كان متوثرا كان يتقدم بسرعة دون أن يلتفت إلى الوراء، ثم يقول بعض الجمل غير المسموعة جيدا، وهو مازاد توثرنا »ابقوا ورائي وحاولا أن تتفادين الأحجار التي تتحرك والتي ليست راسخة في التربة فتحتها يخبأون ألغامهم!«. وصلنا بسرعة إلى الضفة الأخرى أي التراب السوري ودون أن ينتظرنا أو يتأكد بأننا قادرات على مجاراته رغم ثقل حقائبنا الظهرية سار أحمد في أرض رطبة وصخرية محاطة بأسلاك شائكة وسط ظلام دامس، كانت حقائبنا تعلق في الأغصان وتعرقل تقدمنا الذي أصبح يتم في أراض ملشوفة. سيارات رباعية الدفع تسير بلا أضواء على طريق اسفلتية بمحاذاة الأرض التي نسير عليها، كلما اقتربت سيارة عسكرية كان أحمد ينبطح أرضا ويأمرنا أن نفعل نفس الأمر، حالة الارهاق التي تظهر على مرافقنا تعطي صورة كافية عن الحالة داخل البلد، أخيرا وصلنا إلى منزل أول سرعان ما غادرناه إلى مسكن ثان كان هو منزل أحمد، كان يعيش به رفقة والديه وشقيقه حسن، شاب في 25 من العمر مبحوث عنه أيضا بتهمة التهريب. كان علينا انتظار طلوع النهار لمحاولة التسلل الى بابا عمرو وبعد ان جففنا سراويلنا التي بللتها مياه النهر. مددنا ارجلنا قرب مدفئة خشبية مصدر الدفء الوحيد في البيت المتواضع نمنا بملابسنا وتخلينا عن مرين تغيير الملابس للنوم أو أخذ حمام في مثل هذه المساكن التي يصعب فيها الخلوة والتي لا يمكن الاغتسال الا بصعوبة في هذه الحمامات التركية المشكوك في نظافتها اضافة الى أنه يتوجب علينا مغادرة المكان على الفور في حال حدوث مشكل. 16 دجنبر 2011، مشيرفة صباح اليوم التالي. حاول حسن الذي يتحاشى التحرك في السيارة لكي لا يتم اعتقاله في حواجز التفتيش حاول العثور على شخص موقوف ليقودنا حتى بابا عمرو . العديد من المرافقين المحتملين جاؤوا للقاءنا، لكنهم كانوا يرفضون المهمة. نقل امرأتين اجنبيتين بحقائبهما المليئة بالمعدات الصحفية مهمة مستحيلة بكل بساطة خاصة وان مداخل حمص تتحكم فيها قوات الجيش النظامي منذ الفجر كما هو الامر كل جمعة. لمحاولة الحد من المشاركة في المظاهرات التي تجري بعد صلاة الجمعة. بدأنا نفقد الامل في الوصول الى بابا عمرو قبل نهاية النهار، عندما زارنا ابو عادل وهو ساطئق طاكسي خرج مؤخرا من السجن. الرجل السيتين قضي عقوبته ولم يعد مبحوثا عنه. قبل نقلنا الى بابا عمر بشرط ان نضعا لحجاب حتى لا نثير الانتباه وان نحمل معداتنا في حقائب قديمة من الثوب على أن نتوصل بحقائبنا الفارغة لاحقا، ولميد من الاحتياط سيكون امامنا راكب دراجة نارية للمراقبة و الرصد. ركبنا السيارة وسرعان ما وجدنا انفسنا على الطريق السيار المؤدي الى حمص بعد حوالي ربع ساعة من السير، رن هاتف سائق الطاكسي انه مرشدنما صاحب الدراجة النارية. توقف السائق بسرعة على جانب الطريق لا يمكن التقدم الجيش يوجد على بعد 500 متر مختبئا تحت جسر على الطريق من الجهة التي نسير يفها اقترح علينا ابو عادل النزول من الطاكسي وقطع الطريق بسرعة وتجاوز الحاجز العسكري مشيا على الاقدام كما لو اننا عابرات محليات. رفضنا هذه المغامرة مخافة ان يتم مع ذلك اعتقالنا. قرر سائقنا العودة في الاتجاه المعاكس وابتعد بسرعة من المنطقة. كانت الشاحنات تمر دون ان تكرث بنا ولا بالمخالفة التي نرتكبها. توقف على بعد كلمتر ليستعيد افكاره واقترح علينا.