كنت مضطرا لترك والدي يوم الثلاثاء لزيارة صديقي الذي غادر السجن بعد أحد عشر سنة من المعاناة ...استأذنت والدي في ذلك مع شدة مرضه فأذن لي....بل كان متألما ألا يكون بنفسه في استقباله وأن المرض حبسه ومنعه... للعلم فقط والدي بعد خروجه من السجن استقبل أكثر من مرة بعض الذين من الله عليهم بالفرج عند باب السجن مع فارق السن....آخرهم شاب لا يتجاوز عمره خمسا وثلاثين سنة....والدي الذي جاوز السبعين يترك فراش المرض لاستقبال الشاب المغادر للأسوار.... لم تتوقف اتصالاتي وهواتفي وأنا بفاس للاطمئنان على صحة الوالد....كل شيء كان يبشر بالخير...صحته في تطور وتحسن...شجعني ذلك على التأخر ليوم الأربعاء لاغتنام مزيد من الوقت مع الشباب بفاس...وصلت عشية الأربعاء وبعد استراحة قليلة توجهت للمستشفى...وكلي شوق لرؤيته بعد الأخبار الجيدة التي بلغتني وأنا بالطريق....كانت الطبيبة ذلك اليوم اطمأنت على أحواله الصحية ورأت أن حالته لا تستدعي مزيدا من المكث بالمشفى..وأنه يمكنه التحول إلى بيته..كنت سعيدا بهذا الخبر ...حتى كنت أتهيأ لالتقاط الصور التي سأنشرها على صفحة الفايسبوك لحظة دخوله البيت...إشراكا للمتتبعين لي في لحظات السعادة والفرح...كما شاركوني لحظات الشدة وقت إدخاله المستشفى ومروه بلحظات حرجة... لكن والدي طلب من الطبيبة تمديد إقامته حتى يتعالج نهائيا من التهاب صدري...دخلت عليه فوجدته مستبشرا ضاحكا...سرني كثيرا أن يقال لي "سأل عنك والدك مرارا واستعجل قدومك"... كنت أحس بابتهاجه لملازمتي له في أيامه الأخيرة....حدثني وأسارير وجهه تشع نورا عن أحد أصدقائه القدامى من العلماء البارزين...وكيف فاجأه بزيارة سالت دموعهما معا لها...لم يكن ذلك الرجل إلا صديق الوالد القديم الشيخ محمد زحل...حدثوني عن يومياتي عنه بالفايسبوك والتي قرئت عليه كاملة ففاض لذلك عيناه.. لم أره أشد نشاطا مما كان عليه تلك الليلة....مزاحا وحكيا ومشاركة في الحديث...مناوشاته الجميلة مع أخته التي أصر على أن لا تفارقه طول هذه الفترة لم تتوقف...زاره أصدقاؤه وقصدوا التخفيف في زيارتهم والمغادرة فألح عليهم بالبقاء....طلب أن يهيئ له حفيده صفوان عصير البابلموس...أو الليمون الهندي كما يحب أن يسميه...حرصا منه على سلامة اللغة وعدم الرطانة فيها.....استدعى حفيده المدلل عبد الباري وطلب منه استظهار سورة النبأ....لم أره من قبل فرحا بحفيده كما رأيت تلك الليلة...أثنى على حفظه كثيرا رغم أخطائه وعثراته....وقبله قبلات الرحمة والمحبة.... كنا على وشك المغادرة قبل أن تصل أمي ومعها طبق الحريرة المشهور...عدنا لمشاركته الحريرة ونحن في أقصى لحظات الحميمية والألفة.....وودعناه فرحين قرابة منتصف الليل على أمل لقائه في الصباح الباكر لنقله إلى مركز التصفية... مع صلاة الفجر يرن الهاتف..تلمست في تلك الرنة خطرا...دقات قلبي تسارعت بشكل غريب...زوجة الوالد على الخط....والدك سقط من أعلى السرير إلى الأرض وبحالة سيئة....لست أعقل كيف أديت ركعتي الفجر ولا كيف وصلت للمستشفى...وجدته على الأرض يتنفس بصعوبة...لم يفقد عقله نهائيا في أي وقت رغم صعوبة الحال..تعاونت مع ثلاثة من عمال المستشفى على رفعه إلى السرير...كان عليه الاستعداد للتوجه إلى مركز التصفية... أصر في تلك الحال التي آلمتني على تأدية صلاة الفجر....وضع اليد على اليد وحرك عيونه ركوعا وسجودا....كانت آخر صلاة يؤديها في حياته الكريمة....الرجل الذي ما رأيت في حياتي أحرص منه على الصلاة و لا أكثر استمتاعا بها.. حملناه في سيارة الإسعاف إلى مركز التصفية..تبين للطبيبة تدهور الوضع فأمرت بإرجاعه للمستشفى...بدأت دقات قلبي تتصاعد شيئا فشيئا..حملناه على وجه السرعة إلى طبيب القلب..أكدت الفحوصات السلامة التامة للأداء...طلب منا نقله للسكانير... وأنا أدفع العربة التي تحمله...بدأ يردد....حسبي الله ونعم الوكيل ....حسبي الله و نعم الوكيل.....لا إلاه إلا الله ...لا إلاه إلا الله.....يرددها من غير مناسبة....حينها عرفت أنها الموت وأنها حسن الخاتمة...لكنني أجبرت نفسي على عدم التصديق...إلى اليوم لا زلت لا أصدق أني أعيش بدنيا ليس هو فيها.... عند بوابة السكانير بدأت العلامات تظهر بقوة...أمر الطبيب بنقله لجناح الإنعاش...كانت آخر اللحظات بيني و بينه.... بعد ذلك ليس إلا نظرات مختلسة من بعيد عند فتح باب القاعة أو عبر نافذة صغيرة بها... قصة الربع ساعة الأخيرة قضاها معه أحد أصدقائه القدامى من الأطباء بنفس المشفى....سأله والضربات الكهربائية تحاول إنعاشه: سي أحمد كيف حالك...أجاب بكل قوة: الحمد الله...ثم بدأ في ترديد: يا غفور...يا رحيم....يا غفور يا رحيم...يا غفور....يا رحيييييم.... عند هذه الكلمة كان الالتحاق بالرفيق الأعلى... خرج الأطباء من القاعة وعلامات الحزن على وجوههم...لم يكونوا بحاجة لإدخالي إلى المكتب وإبلاغي بالخبر...كل شيء كان واضحا...كانت الدموع على أهبة الاستعداد لمراوحة مكانها...استجمعت أقصى ما يمكن من الشجاعة لمخاطبة جحافل النساء المتجمهرة على باب المكتب...ليس في الأمر ما يمكن إخفاؤه..لم أكن محتاجا للتصريح لتتساقط النساء على الأرض.....حملناه إلى غرفة الأموات....أهويت برأسي على وجهه وبكيت...قبلته كما لم أقبله في حياتي...ومع كل ذلك حاولت التقوي وعدم الانهيار... حاولت التخفيف عمن كان حولي من النساء...عانقت أمي وزوجة والدي وعمتي وزوجتي عناقا باكيا...ثم تركت الجميع واتجهت إلى البحر...هناك أرخيت العنان للدموع وفجرت كل شحنات الحزن...صحت بأعلى صوتي وبكيت بحرقة و ألم... تناولت لوحتي الإلكترونية..و كتبت:وأسلم الروح إلى باريها.....إنا لله وإنا اليه راجعون....لله ما اخذ و لله ما أعطى....وداعا أعظم وأشرف و أسمى اب في الدنيا...دعواتكم بالتثبيت عند السؤال..... ثم عدت إلى المستشفى...... المصدر: الشيخ أبو حفص محمد عبد الوهاب رفيقي