الريف بين العصيان المدني والقمع المخزني 1958/1959 في حديث صحفي سبق وأن أدلى به إدريس البصري لإحدى الصحف الوطنية، وتسابقت صحف أخرى آنذاك لإعادة نشر محتوياته، أرجع وزير الداخلية الأسبق تجاوزات سنوات القمع السياسي والقهر الاجتماعي في المغرب، إلى دواعي المصلحة العليا للوطن! ذلك أن كثيرا من الذين استهدفتهم شظايا تلك الحقبة المشئومة، "حاولوا المس بحياة الملك وعددهم كبير، منهم الفقيه البصري، حسن لعرج، سعيد بونعيلات، عبد العزيز من تاحناوت وأمزيان من الريف" (الصحيفة، ع. 113، مايو 2003). هنا ينتهي التاريخ عند البصري، وكل من يحاول النبش في الدفاتر القديمة كمن يحاول القبض على جمر متقد تحترق به الأصابع والأعصاب. والغريب أن البصري الذي أجهد نفسه لإقامة هيكل سياسي له على أنقاض الملفات السرية التي صنعتها أجهزته على مدى أكثر من ثلاثة عقود، يعلن أن الغرض من تصريحاته الموزونة هو "الإسهام في النقاش السياسي" الدائر حاليا في المغرب حول عدد من القضايا الجاثمة على صدر الوطن كالكوابيس المزعجة. والواقع أنه ينبغي الترحيب بمبدأ فتح باب النقاش السياسي والاجتماعي والتاريخي بين جميع أطياف ومكونات المجتمع المغربي، من زوايا متقاطعة واتجاهات معاكسة متعاكسة. ينبغي فعلا إعادة قراءة الماضي المشترك بين كل المغاربة وليس الماضي المحتكر بين بعض المغاربة فقط. فالنقاش المثمر والحوار البناء هو كل ما يحتاجه المغرب في مسيرته الحالية المتعثرة والمرتبكة. إن ادعاء الحقيقة المطلقة يمينا ويسارا، وثقافة الإقصاء والإقصاء المضاد، لم ينتجا على مدى العقود الماضية إلا زمنا مغربيا رماديا مخيفا ومقززا. أنتجا عقلية متآكلة تدعو إلى جلد الذات وسلخ الذاكرة عن مسارها الوطني ووعيها بالتاريخ. ومن باب الإسهام في إعادة قراءة الماضي القريب والنبش في الذاكرة الموشومة، نقدم هذه الورقة عن انتفاضة الريف أو ما يعرف عند أهالي المنطقة ب "رعام ن ذفاضيسث" أو "رعام إقبان". في هذه الورقة سيتم رسم إطار عام لما جرى بين أواخر سنة 1958 وبداية سنة 1959 من القرن الماضي، مع رسم أولي للبنية التنظيمية والبرنامج السياسي للانتفاضة، ثم التطرق لظاهرة نزوح الريفيين عن موطنهم نحو البلدان الأوروبية بصفة عامة في أعقاب قمع الانتفاضة بالقسوة والانتقام المعروفين. لم يكتب عن هذه الانتفاضة في السابق إلا من زاوية الطعن في وطنية المسئولين عن قيامها. وكثيرا ما تردد أن مؤسسة القصر أوحت للريفيين ب"التمرد" على سطوة حزب الاستقلال، وإذا بالريفيين "يتمردون" حتى على سلطة المخزن نفسها! البعض الآخر تمسك بمقولة "الانفصال" الذي "يتميز" به الريفيون عن باقي الخلق، وكأنها "حقيقة" أزلية ثابتة لا تتغير. وهناك من يرى في الأيدي الأجنبية، الإسبانية بالذات، سببا في رفع الريفيين صوتهم عاليا فوق صوت المخزن. هذه الاتهامات وغيرها كثير، تشبه إلى درجة الاستنساخ تلك التهم التي ألصقت بالمقاومة المشهودة للريفيين خلال مواجهتهم للغزو الاستعماري مع بداية العشرينات من القرن الماضي. ليس المقام هنا الرد على هذه الادعاءات، فلقد كفل بإبطال جزء كبير منها كتاب للأستاذ مصطفى أعراب صدر في المغرب عن منشورات اختلاف سنة 2001 تحت عنوان: "الريف بين القصر، جيش التحرير وحزب الاستقلال". ذلك الكتاب الذي أسهم بشكل إيجابي في تحطيم مؤامرة الصمت على ما جرى في الريف، و دفعت الكثير من المتتبعين وحتى الفاعلين السياسيين إلى الإدلاء بدلوهم في ملاباسات الموضوع، لدرجة أن صحيفة أسبوعية وصفت صدور الكتاب بالحدث الذي أعاد تفجير الريف. وبعد ذلك توالت المقالات وتجرأ الناس على الجهر بقليل مما يثقل صدورهم من أفكار لم يكونوا ليبوحوا بها حتى لأقرب أقربائهم. لكن هذا لا يعني أن الصدمة زالت ورفع الحجاب تماما. يلخص الباحث المعروف دافيد هارت (كتابه: آيت ورياغل، صص. 428-432) أسباب انتفاضة الريف في عدم رضا الريفيين عن زمن الاستقلال. فقد خاب ضنهم في الأحزاب السياسية، وفي الحكومة المغربية التي لم يحصل الريفيون فيها ولو على منصب عامل إقليم. أضف إلى ذلك أن تخلف منطقتهم قياسا على ما سواها، عمق لديهم الإحساس ب "الحكرة". قد يكون في ما ذهب إليه هارت جانب كبير من الصحة، ذلك أن قائد الانتفاضة محمد الحاج سلام أمزيان، أو ميس نرحاج سلام كما هو معروف به بين قومه، يؤكد أنه حينما غادر السجن ووصل إلى الريف، وجد الريفيين على وشك الانفجار بسبب إجحاف الإدارة وسياسة الإقصاء المتعمدة من طرف الحكام الجدد. ويقول واصفا تلك الظروف الحرجة: "لقد وجدنا أن كل الملابسات تدعونا إلى القيام بهذه الحركة لإنقاذ الوطن، وإلا فسوف لن يرحمنا التاريخ والأجيال الصاعدة" (مذكرات السجن، غير منشورة). القيام بالحركة معناه رسم معالم طريقها وتحديد مسارها بأن يوضع لها برنامج وأهداف تسير نحوها. ومن يطلع على نقط برنامجها المنشور في كتاب هارت المذكور، سيكتشف حقيقة أهدافها ومراميها، من كونها حركة واعية بذاتها في الزمان والمكان. فقد دعت الحركة إلى جلاء القوات الأجنبية عن المغرب، وإلى تكوين حكومة وطنية ذات قاعدة عريضة وحكومة وحدة وطنية. وطالبت بعودة عبد الكريم الخطابي وأسرته من المنفى إلى وطنه المغرب، وإقامة نظام ديمقراطي يحقق رغبات الشعب في ميادين الاقتصاد والسياسة والتعليم، وغير ذلك من المطالب التي تنأى عن كل نعوت الانفصال والتمرد فقط من أجل التمرد. هذه المطالب أو ما سمي آنذاك بالمطالب المستعجلة، رفعت إلى السلطان في الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر من سنة 1958. لكن الحكومة المركزية عوض العمل على إيجاد حل لتلك القضايا السياسية ذات البعد الوطني السيادي، وعدت بإرسال كميات من الطحين، وكأن المطالب كانت "بطنية" وليست سياسية. أما لجنة تقصي الحقائق فقد "تحققت" توصياتها على أرض الواقع حينما تدخل الجيش ليقمع الناس بوحشية لم يكن المغرب المستقل قد تعود عليها بعد. كانت عريضة المطالب واسعة ولائحة الأهداف أوسع. فقد تحددت في 30 نقطة تمحورت حول الجلاء وتأميم المرافق العامة وتحقيق الوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية إلى غير ذلك. غير أن الضغط العسكري والتسرع الداخلي أديا إلى النتيجة المعروفة. في بداية الحركة تشكل مجلس سمي "مجلس قيادة" ضم خمسة أشخاص باعتبارهم من اللجنة التأسيسية، على أن يتم لاحقا انتخاب تسعة أعضاء آخرين. أما سائر مناطق الريف فقد تشكلت فيها قيادات محلية على رأسها مسئول عام وأعضاء منتخبين، مهمتها الأساسية: الحفاظ على الأمن بعد أن تخلت السلطات المحلية عن واجباتها. وكان التنظيم السياسي والاجتماعي قائما على شكل ثلاثي الأبعاد يضمن للقرية كيانها الذاتي المحلي: يقوم السكان بانتخاب ممثليهم وهؤلاء ينتخبون بدورهم الرئيس ثم يتم تنظيم الأفراد في وحدات على رأس كل وحدة رئيس (مثلا: 50، 100، 200، إلخ.) هذا البناء كان ولاشك يرمي إلى نوع من اللامركزية في تصريف الشؤون اليومية للمواطنين، وتدبير أمورهم بأنفسهم على أن يلتزم الجميع بميثاق الحركة المتفق عليه، وأن يكون المسئولون ممن تتوفر فيهم شروط النزاهة والشجاعة والوطنية والقدرة التنظيمية. ومن اللافت للنظر أيضا أن كثيرا ممن أسندت لهم المسؤولية أو كانوا أعضاء مساعدين، سبق وأن شاركوا في حرب الريف التحريرية ضد الإسبان والفرنسيين. ومن جهة أخرى عملت قيادة الحركة على بناء أجهزة فدائية مهمتها: ربط الاتصال بالعناصر الوطنية على مستوى المغرب ونقل التعليمات شفهيا إلى الجهات المعنية وكذا مراقبة الجواسيس والخونة. وتشكلت قاعدة الفدائيين الأولى على الشكل التالي: واحد من كل قرية صغيرة، اثنان من كل مدينة صغيرة وثلاثة من كل مدينة كبيرة. وكان كل فدائي يُعرف برمز خاص به لا باسمه الشخصي. بهذا المستوى من التنظيم والمسؤولية أراد الريفيون إبلاغ صوتهم إلى من يهمه الأمر بأنهم ليسوا غوغاء كما يصورهم الخصوم. بيد أن السلطات المحلية راحت تمطر العاصمة بالتقارير المحرضة، فكان أن زحف الجيش مدعوما بكل أنواع السلاح المتوفر آنذاك، رغم أن الريفيين لم يكونوا يرغبون في الاصطدام المباشر بالجيش، مفضلين "سلاح" العصيان المدني كأسلوب راق في الاحتجاج. وأمام الزحف العسكري اضطر الريفيون للدفاع عن حقوقهم ومطالبهم المشروعة. وفي فبراير انتهى الفصل الدامي من انتفاضة الريف ليبدأ فصل آخر تمثل في مسلسل الحصار والانتقام بالتهميش الذي تعرضت له المنطقة منذ ذلك التاريخ. فبعدما سكتت أصوات الأسلحة النارية، لجأت السلطة المركزية إلى استخدام سلاح من نوع آخر؛ ألا وهو سلاح التهجير لإفراغ المنطقة من طاقاتها المنتجة و "المزعجة". لا توجد تقارير مفصلة في هذا الموضوع، ولكن ملابسات ما بعد الانتفاضة توحي بأن هناك فعلا مخططا ما تبنته السلطة المركزية للتخلص من الخطر المستتر. فعوض أن تضع السلطات خططا للتنمية، فتحت أبواب الهجرة على مصراعيها ليزداد النزيف ويستمر إلى اليوم في شكل قوارب الموت. في كتابه عن الإمبريالية والهجرة، يربط الأستاذ عبد الله البارودي ربطا فعليا بين مقاومة الريفيين للغزو الاستعماري وبعد ذلك انتفاضتهم ضد المخزن المركزي، وبين الهجرة المكثفة نحو أوروبا الغربية منذ أواسط الستينات. ويرى أن الهجرة من الريف كانت سلاحا سياسيا استخدم ضد أبناء هذه المنطقة عقابا لهم على موقفهم من السلطة المركزية. وفي هذا الصدد يورد أرقاما مخيفة تبين مدى النزيف الذي أصاب الريف وشل حركته الإنتاجية شللا يكاد يكون تاما. فحسب إحصاء 1975 تبين أن ما يقرب من ثُمن مجموع سكان الريفيْن الشرقي والأوسط كان من المهاجرين إلى البلدان الأوروبية. حوالي 50% من المهاجرين المغاربة في ألمانيا من إقليمالناظور وحوالي 50% من المهاجرين المغاربة في هولندا من إقليمالحسيمةوالناظور (دائما إحصاء1975) ولم تتوقف أفواج الهجرة مع مرور السنوات، بل أسهمت الإجراءات القانونية المشددة في بلدان الهجرة إلى دفع الريفيين الذين كان أغلبهم يعيش في المهجر وحيدا، إلى استقدام أفراد عائلاتهم في إطار ما يسمى بالتجمع العائلي وتكوين الأسرة. إن عملية إخلاء الريف، وإن كانت لها نتائج سلبية على المجال والإنسان في المنطقة، فإنها على العكس أصبحت مصدرا مهما لجلب العملة الصعبة إلى المغرب. غير أن تلك الأموال لم تستفد منها المنطقة في مشاريع اقتصادية تنموية، بل تستنزف إلى خارج الريف، وهذا دليل مادي أخر على وجود خطة خبيثة لعقاب الريف وأهله. mamezian.jeeran.com ""