تحول الصّراعات المسلّحة وعدم الاستقرار السّياسي وتهديدات التّنظيمات الإرهابية دون كسب رهانِ إعادة إعمار المدن المنكوبة، التي تضرّرت إما بفعلِ الكوارث الطّبيعية أو الأخطاء البشرية. كما تشكّل محدودية الموارد المالية المخصصة لإعادة تأهيل المناطق المتضرّرة وضعف القدرة على إدارة أزمات "الطوارئ" أهم تحدّيات "إعادة الإعمار". من هذا المنطلق، تؤكّد ورقة بحثية منشورة في مركز المستقبل للأبحاث والدّراسات المتقدّمة أنّ "المدينة المنكوبة أو المهدمة هي منطقة جغرافية محددة تضررت بشكل بالغ من جراء حدوث كارثة طبيعية مثل الزلزال والفيضان والإعصار، أو كارثة صناعية ناتجة عن تسرب إشعاعي مثلاً، أو نزاعات عسكرية ممتدة مثل الحروب وأعمال الشغب العنيفة، على نحو يجعل تلك المدينة متضررة وتصبح أحوالها متغيرة في مرحلة ما بعد وقوع الضرر مقارنة بما قبله". عجزُ الدّولة وتقفُ الورقة البحثية عند بعض التّحديات التي تواجهُ عملية إعادة إعمار المدن المنكوبة في المنطقة العربية، والتي في مقدّمتها؛ "عجز الدولة"، بحيث تنطقُ الدّراسة من "الانفجار" الذي ضرب العاصمة اللبنانيةبيروت، مشيرة إلى أنّ "من بين العوامل الرئيسية التي تعرقل إعادة بناء "مرفأ بيروت" عدم الثقة في النخبة الحاكمة في ترجمة الموارد المالية التي تحصل عليها إلى سياسات عملية ملموسة. ويستند ذلك، وفقاً للرّواية الرّسمية للتّفجير، والتي تؤكد على حالة من الإهمال الحكومي، فالمواد المتفجرة تم تخزينها في أحد العنابر بمرفأ بيروت لسنوات منذ 2013، وهو أمر يطرح تساؤلات حول كيفية تخزين كل هذه الكمية من المواد المتفجرة، التي تقدر ب 2750 طنا من نترات الأمونيا، في واحد من المرافق الحيوية للاقتصاد اللبناني، وأسباب الاحتفاظ بهذه المواد لكل هذه السنوات، واشتراطات السلامة الخاصة بتخزينها. وفي هذا الصّدد، تشير الدّراسة، المنشورة في مركز المستقبل للأبحاث والدّراسات المتقدّمة، إلى أنّ "الانفجار فتحَ ملف الفساد في إدارة الجمارك نتيجة لمخالفات متعددة؛ منها ما يتعلّق بالتزوير والتلاعب بقيمة الفواتير، وإدخال بضائع لا تخضع للرسوم الجمركية". أمّا في ما يخصّ عجز الدّولة، فتتمثّل، وفقاً لخلاصات الدّراسة، في عدم تمكّن الدّولة اللبنانية من مواجهة الأزمات المتزايدة، لاسيما بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية؛ وهو ما انعكس في تراجع قيمة العملة الوطنية، علاوة على تزايد معدلات البطالة، وتراجع الاحتياطي النقدي، وتنامي الدين العام. نقاط الاشتعال ولعلّ من بين التّحديات التي تقف عندها الورقة البحثية في معالجتها لموضوع "إعادة الإعمار" استمرار مروحة الصراعات المسلحة، بحيث تعرضت مدن يمنية عديدة لنكبات متتالية منذ عام 2014، أي بعد سيطرة المتمردين الحوثيين على أجزاء من البلاد. وقد دعت الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية في اليمن (التي يسيطر عليها الحوثيون)، يوم 3 غشت 2020، منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم إلى إطلاق نداء عالمي لإنقاذ مدن صنعاء القديمة وزبيد وشبام وحضرموت، المدرجة في قائمة التراث العالمي. كما قالت الهيئة، في بيان آخر، إن "مباني صنعاء القديمة التي صمدت لمئات السنين نكاد نفقدها في أي لحظة"، مؤكدة أن "هذه المدينة العالمية تواجه اليوم كارثة حقيقية تهدد وجودها بسبب استمرار هطول الأمطار الغزيرة وغير المسبوقة". وتنتقلُ الورقة البحثية إلى ليبيا وبلدة غات الواقعة في أقصى الجنوب، حيث أعلنت وزارة الداخلية بحكومة الوفاق في 4 يونيو 2019 أنها "مدينة منكوبة"، وقالت الوزارة إن "السيول والفيضانات أغرقَت أحياءً سكنية بمدينة غات، وتسببت في العديد من الخسائر البشرية والمادية، وسببت نزوحاً للعديد من المواطنين إلى أماكن آمنة بعيداً عن الخطر، جراء السيول والفيضانات نتيجة هطول الأمطار". خطر الإرهاب إنّ من بين التّحديات التي تحول دون إعادة بناء المدن "مواصلة الحرب ضدّ بقايا التنظيمات الإرهابية"، بحيث ما زالت بعض المدن العراقية التي تم تحريرها من سيطرة تنظيم "داعش"، مثل مدينة الموصل التابعة لمحافظة نينوى، تواجه خطر تعرضها لضربات إرهاب "داعش" من جانب، وعدم إنجاز الحكومة المركزية أية مشروعات لإعادة البناء في المحافظة من جانب آخر. يضافُ إلى ذلك، بحسب مضمون الورقة البحثية، تعدد الجهات المسئولة عن الإعمار في مدينة الموصل وتضارب مصالحها، بما يؤدي إلى تأخير المشروعات التي حصلت على التمويل من البنك الدولي.. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هناك أكثر من أربع جهات مسؤولة عن الإعمار؛ وهي صندوق إعمار العراق ومحافظة نينوى ومجلس الإعمار والدوائر الخدمية، على نحو يعكس تباينات مختلفة في الرؤى والمصالح. فجوات سياسية تمثّل الخلافات "المزمنة" بين القوى السياسية المتنافسة أحد أبرز تحديات إعادة "الإعمار"، بحيث يشير اتجاه في الأدبيات إلى أن الخلافات بين الأطراف السياسية، وخاصة في حالتي لبنانوالعراق، تعيق عمليات إعادة الإعمار، وتوجه رسائل إلى الجهات المانحة بأن الأموال التي يمكن أن تقدمها تكون في غير محلها، على نحو يؤدي إلى تعطيلها تشكيل حكومة قادرة على بلورة إستراتيجية محكمة لإعمار وتأهيل المناطق المنكوبة وإيجاد آلية للتخلص من الكميات الهائلة من "الأنقاض". نقص مالي تتوقّف الورقة البحثية عند "محدودية الموارد المالية المخصصة لإعادة تأهيل المناطق العمرانية"، باعتبارها أحد أبرز التّحديات التي تحول دون بناء مدن عصرية. وتشير الدّراسة إلى أنّ "المدن المتضرّرة من الصّراعات تحتاج إلى موارد مالية هائلة ليس باستطاعة الحكومات العربية توفيرها، على الرغم من أدوار المانحين الدوليين والمنظمات الإغاثية الإنسانية ومساهمات القطاع الخاص. كوارث مفاجئة وتشدّد الورقة البحثية على أنّ "أغلب الحكومات العربية تفتقد للقدرة على التعامل مع الكوارث المفاجئة، مثل السيول والفيضانات. وعلى الرغم من أن بعض الأبنية الرسمية تحتوي على إدارة للأزمات أو مواجهة الكوارث، فإنه عند وقوع الأخيرة لا يصبح لها تأثير، سواء بشكل استباقي أو لاحق. وتبرز الورقة ذاتها أنّ الصناديق التي تم تأسيسها في السنوات الماضية والتي من شأنها دعم الاستقرار في ليبيا أو إعمار المناطق المتضررة من الإرهاب في العراق لا تكون كافية لإعمار شامل للمدن المنكوبة. ويضاعف من ذلك الاتهامات التي توجه إلى سوء إدارة الأموال، وما يرتبط بها من ممارسات للفساد. وتخلص الدّراسة البحثية إلى أنّ "هناك حزمة من الإشكاليات التي تواجه المدن العربية المتضررة من أجل تعافيها بعد الأزمات التي واجهتها، على نحو يتطلب الاستفادة من خبرات مختلفة، على المستويين الدولي والإقليمي، في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والمساعدة الإنسانية، ووسطاء السلام، والتراث الثقافي، والاستعداد للمخاطر، لمواجهة ضعف البنية التحتية".