تُثار أسئلة كثيرة حول علاقات بعض المنظمات الحقوقية الدولية مع مُموليها وداعميها، ويزداد الأمر أكثر حين يختار بعض المسؤولين فيها "الخلود" في مناصب المسؤولية ليس سنوات فقط، بل عقودا. مثال هذه المنظمات "هيومن رايتس ووتش"، فمُديرها التنفيذي كينيث روث يشغل هذا المنصب منذ 1993، أي لمدة تصل إلى 27 عاماً، ونفس الشيء بالنسبة لمدير منطقة "مينا" إريك غولدستين، الذي يُوجد في هذا المنصب منذ 31 عاماً. حول تاريخ هذه المنظمة، أورد موقع "أطلس أنفو"، في مقال تحليلي له، أنه "في وقت سابق كانت بيانات هيومن رايتس ووتش تزلزل أروقة البيت الأبيض، لكن اليوم يجب أن تكون ديكتاتوراً أو ساذجاً حتى تؤمن بهيومن رايتس ووتش الممولة إلى حد كبير من أموال مشكوك فيها ومندد بها من طرف نشطاء حقوق الإنسان". ويُشير المصدر ذاته إلى أن "وجود كينيث روث على رأس هذه المنظمة غير الحكومية يجعلها في تناقض ضد الطغاة التي تدعي بأنها تندد بهم، في الوقت الذي كانت أيام مؤسسها روبرت بيرنشتاين تهز حكومات بأكملها فور نشرها تقريرا بسيطا". في عمود مشهور نشره في 19 أكتوبر من سنة 2009 على صفحات "نيويورك تايمز"، كان روبرت بيرنشتاين، وهو ناشر ومدافع عن حقوق الإنسان، قد وجه انتقادات لاذعة إلى قادة "هيومن رايتس ووتش" بسبب انحرافهم عن المهمة الأساسية التي تصورها للمنظمة التي قادها لمدة 20 عاماً منتصف الحرب الباردة. وقد توفي روبرت بيرنشتاين سنة 2019 عن عُمر يناهز 96 عاماً، بعدما صعب مأمورية مسؤولي منظمة "هيومن رايتس ووتش" ووصفها بأنها "مفُلسة أخلاقياً". بعد ذلك بسنوات كان "الإفلاس الأخلاقي" لهذه المنظمة، التي تقول إنها تدافع عن حقوق الناس في العالم، موضوع رسالة مفتوحة غير مسبوقة في ماي من سنة 2014 وقعها اثنان من الحائزين على جائزة نوبل للسلام وحوالي مائة أكاديمي عالمي وناشطون في مجال حقوق الإنسان وصحافيون. وكان من بين الموقعين على الرسالة الألماني هانز فون سبونيك، نائب الأمين العام للأمم المتحدة، والصحافي كريس هيدجز، صاحب كتاب "الحرب قوة تعطينا معنى"، والصحافي نورمان سولومون، المناهض للحرب، وأوليفر ستون، المخرج والمؤلف المشارك في كتاب "التاريخ المحرم للولايات المتحدة". وقد أحدثت تلك الرسالة هزة داخل منظمة "هيومن رايتس ووتش"، وأثارت جدلاً في الولاياتالمتحدة الأميركية، وفي دوائر حقوق الإنسان، حيث وقعها مايريد ماغواير، الناشط الإيرلندي والحائز على جائزة نوبل للسلام، وأدولفو بيريز إسكوفيل، الأرجنتيني الفائز كذلك بجائزة نوبل للسلام. توجيهات الإدارة الأميركية جزء من الانتقادات الموجهة إلى "هيومن رايتس ووتش" تهم سياستها في توظيف المديرين التنفيذيين، الذين سبق لهم الاشتغال في مختلف مؤسسات الإدارة الأميركية، إضافة إلى عدم قُدرتها على إدانة ممارسة الترحيل السري خارج القضاء، وتأييدها التدخل العسكري الأميركي في ليبيا، وصمتها المطبق خلال انقلاب 2004 في هايتي. لكن أكثر الانتقادات تتعلق بروابطها الوثيقة مع حكومة الولاياتالمتحدة الأميركية، وهو ما يدفع إلى التشكيك في استقلاليتها، وهي الروابط التي تم تقديم عدد من الأمثلة بخصوصها في الرسالة المفتوحة إلى المدير التنفيذي للمنظمة كينيث روث. وجاء في الرسالة أن "العلاقة الوثيقة بين هيومن رايتس ووتش وحكومة أميركا تظهر تضارباً في المصالح، وأن المنظمة قريبة جداً من السياسة الخارجية الأميركية وغير قادرة على انتقادها، بل تسير في توافق معها، من كوبا إلى الإكوادور عبر سورياوكولومبيا وإثيوبيا". وأورد موقع "أطلس أنفو" أن نشر المنظمة معلومات كاذبة عن حالة حقوق الإنسان في المغرب أو مصر أو رواندا أو الكونغو الديمقراطية، على سبيل المثال لا الحصر، جعلت صورتها الغامضة تعزز وتؤكد تحيزها وبُعدها عن الاسترشاد بحماية حقوق الإنسان في خياراتها. ويشكل رد فعل منظمة "هيومن رايتس ووتش" على التدخل الأميركي في العراق حالة فريدة إلى يومنا هذا، حيث جاء في بيانها آنذاك: "نتجنب الأحكام بشأن شرعية الحرب نفسها، لأنها تميل إلى التنازل عن الحياد الضروري لمراقبة الحرب بأكبر قدر ممكن من الفعالية". وقد أثار هذا البيان الصحافي ضجة كبيرة أدت إلى انقسام حاد داخل المنظمة. أطر حقوقية في إدارة أميركا في الرسالة الموجهة إلى كينيث روث، تمت الإشارة إلى توم مالينوفسكي، مُدير الترافع في واشنطن لدى منظمة "هيومن رايتس ووتش"، الذي كان قبل ذلك مساعدا خاصا للرئيس الأميركي بيل كلينتون. وكان مالينوفسكي من كُتاب خطابات مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية آنذاك، وفي سنة 2013 استقال من منصبه بالمنظمة الحقوقية بعد تعيينه مكلفاً بالديمقراطية وحقوق الإنسان والشغل تحت إدارة جون كيري في وزارة الخارجية، وهو اليوم عضو بالكونغرس، حيث انتخب سنة 2018 باسم الحزب الديمقراطي. وتوضح الرسالة المرسلة بتاريخ 14 ماي 2014: "تتكون اللجنة الاستشارية لهيومن رايتس ووتش في الأميركيتين من مايلز فريشيت، السفير الأميركي السابق في كولومبيا، ومايكل ستيفتر، المدير السابق لقطب أميركا اللاتينية في منظمة National Endowment for Democracy (NED) الممولة من حكومة الولاياتالمتحدة الأميركية". كما جاء في الرسالة أيضاً أن ميغيل دياز، مُحلل وكالة المخابرات المركزية في التسعينيات، سبق له أن عمل في اللجنة الاستشارية ما بين 2003 و2011، وهو يَشغل منصباً في وزارة الخارجية الأميركية. وتضم اللجنة الاستشارية أيضاً سُوزان مانيلو، التي تصف نفسها في سيرتها الذاتية المنشورة على موقع المنظمة أنها صديقة قديمة لبيل كلينتون، وهي "منخرطة جداً" في حزبه السياسي، وسبق لها أن شاركت في عشرات التظاهرات في إطار اللجنة الوطنية الديمقراطية، وهي الهيئة المكلفة بتسيير الحزب الديمقراطي الأميركي على المستوى الوطني. أما قضية خافيير سولانا، الذي كان أميناً عاماً للناتو أثناء التدخل في يوغوسلافيا السابقة عام 1999، وهو حدث وصفته المنظمة آنذاك بأنه أدى إلى "انتهاكات للقانون الإنساني الدولي"، فتثير التساؤل حول نموذج التوظيف داخل المنظمة، فهذا الدبلوماسي الإسباني انضم إلى مجلس إدارة "هيومن رايتس ووتش" سنة 2011، أي بعد عامين من التدخل في يوغوسلافيا السابقة. وفي ختام الرسالة المفتوحة إلى كينيث روث، حث الموقعون على "اتخاذ خطوات ملموسة وفورية لإعادة التأكيد بقوة على استقلالية المنظمة لوقف ما قد يبدو أنها لعبة كراسٍ موسيقية، من خلال منع أولئك الذين طوروا أو نفذوا السياسة الخارجية الأميركية من أن يكونوا موظفين داخل المنظمة، لكن روث رد على الرسالة بعد أسابيع قليلة، حيث وصف انتقاداتهم بأنها "غير منافسة"، وبالتالي رفض توصياتهم. تأثير الجهات المانحة وعالم الأعمال يتحدث مقال "أطلس أنفو" أيضاً عن أن العلاقات مع عالم الأعمال وطريقة تطويرها من طرف "هيومن رايتس ووتش" تشكك بشكل كبير في نموذج عملها المعتمد بشكل مباشر على مصادر التمويل. وتبقى أكثر هذه العلاقات إثارة تلك التي تربط المنظمة بقطب التمويل جورج سوروس، الملياردير الأميركي من أصل هنغاري، من خلال مؤسسته الخيرية "Open Society Foundation" التي تعمل بميزانية ضخمة لتعزيز النظرة العالمية لهذا الثري. وقد منح هذا "السخي"، الذي يواصل الاستثمار في المواد الأولية في إفريقيا، سنة 2010 مبلغاً قدره 100 مليون دولار لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" خصص للفترة المتراوحة ما بين 2010 و2020. كما أن الروابط مع شركات مثل "إكسون موبيل" و"كوكا كولا" وحتى "بوينغ"، والشركات الثلاث متهمة بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، تضع منظمة "هيومن رايتس ووتش" في وضع يجعل كل مساهماتها في حقوق الإنسان محط تساؤل، إذ كيف يمكن ذلك إذا علمنا أن مجلس إدارتها يضم العديد من قادة الأعمال، بمن في ذلك المصرفيون الاستثماريون؟ التبرع لدفن تقرير! ويؤكد مقال "أطلس أنفو" أن "أولئك الذين يَميلون إلى الاعتقاد بأن هذه الممارسات ليست سوى ادعاءات أو أنها جزء من الماضي سيُصابون بخيبة الأمل سريعاً عندما يطلعون على ما كشفته المنصة الصحافية "The Intercept". فبعد وقت قصير من قيام باحثين من المنظمة بإعداد تقرير عن الانتهاكات التي ارتكبتها إحدى شركات ملياردير سعودي، قبلت "هيومن رايتس ووتش" تبرعاً ب470 ألف دولار منه من خلال مؤسسته التي يُوجد مقرها بالمملكة المتحدة. ونشرت المنصة الصحافية "The Intercept" في مقال موقع باسم إليكس إيمونز، في مارس الماضي، معلومات عن مستوى النزعة التجارية (الميركانتاليزم) الذي حققه كينيث روث، المدير التنفيذي للمنظمة، حيث قال إنه "كان متورطاً بشكل شخصي في التماس هذا التبرع وفقاً لرسالة داخلية حصلت عليها المنصة". في مواجهة هذه المعطيات، اضطرت "هيومن رايتس ووتش" إلى نشر بيان على موقعها، مشيرةً إلى أن "قُبولها تبرعاً من شركة موضوع تقرير سابق كان قرارا مؤسفاً للغاية". قضية عمر الراضي عند قراءة كل هذه العناصر، تساءل موقع "أطلس أنفو": ما هو التفسير الذي سنقوم به للبيان الصحافي لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، الصادر في 29 يوليوز بعد اعتقال الصحافي المغربي عمر الراضي، الذي وجهت ليه تهم بعد أن رفعت شكاية اغتصاب ضده؟ وفي نظر الموقع، فإن بيان المنظمة يكشف تناقضها وافتقارها للمعلومات والمعطيات، فهو تجل مثالي على الانتقادات الموجهة ضدها، حيث جاء في تصريح نُسب إلى إيريك غولدستين: "يقوم باحثونا بإجراء تحقيقات في الميدان وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان بشكل حصري ودقيق وموضوعي". فإذا كانت المنظمة قد حققت في قضية عمر الراضي فأين العناصر الكاملة والدقيقة والموضوعية؟ قبل أن يضيف المدير العام بالنيابة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المنظمة في تصريح: "على الرغم من أن جميع ادعاءات الاغتصاب يجب أن يتم التحقيق فيها بشكل كامل وعادل، فإن السياق يثير مخاوف من أن التهمتين ضد عمر الراضي هي تلاعب صارخ بنظام العدالة لإسكات صحافي ناقد، حيث إن الهجومات على حرية التعبير في المغرب تتزايد". ويعتبر مقال "أطلس أنفو" أن استخدام كلمة "ادعاء" لوحدها يُمثل تحيزاً لأنها تشير إلى أن هناك "تأكيداً غالباً ما يعتبر لا أساس له أو كاذبا"، حسب معجم "لاروس". علاوة على ذلك، لم يتم تقديم أي تفاصيل أو حقائق لدعم الادعاء بأن "الاعتداءات على حرية التعبير في المغرب في تزايد"، ناهيك عن الحديث عن "التلاعب الصارخ بنظام العدالة" دون تقدير أي عنصر لتوضيح ذلك. تسخير قضية حقوق الإنسان يبقى من الغريب جداً أن يظل إريك غولدستين في منصبه سنوات طويلة. وتحت ستار المشاعر الجيدة بخصوص مسألة حقوق الإنسان، يواجه غولدستين صعوبة في تأكيد مواقفه السياسية. كما أنه لم يعد قادراً على تغيير مواقفه الشخصية عندما يتعلق الأمر بقضية الصحراء. ويخلص المقال إلى القول: "أي شخص يقضي وقتاً في تقاسم الوجبات مع قادة البوليساريو في تندوف أكثر من الفقراء المحتجزين هناك عليه أن يعتاد على فكرة أنه سيتعين عليه المغادرة يوماً، بشكل أو بآخر".