إنه يلزم مدخليا التذكير بأن المغرب التاريخي المتكتل، مغرب كل المكوّنات المؤسسة له والقابلة للفحص والمعاينة بعيدا عن الفرضيات أو التداعيات الميتا-زمانية، هذا المغرب إنما قامت قائمته في العمق على سريان قواعد وقيم مشتركة لاحمة، هو مدين لها في ديمومته وتماسكه، وفي اكتسابه لقدرة معتبرة متجددة على مقاومة أخطار وهزات تاريخية قوية متنوعة، منها الغزو الأيبيري لساحليه الأطلسي والمتوسطي طوال القرنين 15 و16 م، ومنها التهديد العثماني على حدوده الشرقية، هذا فضلا عن حلقات صدمة الحماية والاستعمار الفرنسيين. وإذا كانت التعددية في المغرب، سواء في السياسة أو في الثقافية، ما زالت طوع التدبير المعقول، فلأنها تتموضع خارج بل ضداً على منطق البعثرة والتفكيك. فالرغبة في الحياة معا -كما يلزم التذكير دوما- لا تكون منبع قوة وإسعاد إلاّ إذا استحالت إلى رغبة في تشكيل تكتل حضاري، على غرار التكتلات في بلدان العالم المتقدم، تكتل يسير بمقتضى مبادئ دستورية مؤسسة، تتيح تجانس الرموز والعلامات، وبالتالي التواصل، وتعطي دلالة تاريخية فاعلة مبدعة لتلك الرغبة في الحياة معاً وعلى أحسن حال. إن نشطاء الجمعيات الأمازيغية ممن دعوا إلى تبنّي حروف تيفيناغ، التي لا تراث لها، كنسق لكتابة الأمازيغية، إنما هم بهذه الدعوة، في رأي الكثيرين، يرومون قطع كل حبل، ولو رمزي، مع اللغة العربية. وهذا الاختيار (الذي تبناه أعضاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في 31 يناير 2003) يقوم رأسماله، حسب مخالفيه، في معاداة تلك اللغة، ومن شأنه تعقيد وضع الأمازيغية والزيادة في تعويص أمرها داخل وسط تبنّى الأمازيغ فيه الإسلام والعربية منذ أكثر من أربعة عشر قرناً. وفعلاً ألا يبدو ذلك الاختيار مشكلا، لا سيما إذا تمثلناه على ضوء أبحاث مؤرخين وعلماء مسلمين وحتى أجانب ذهبوا إلى تصنيف اللهجات "البربرية" ضمن مجموعة اللغات الحامية-السامية (روسلير، باسي، غالان)؛ إنها أيضاً، أطروحة مارسيل كوهن منذ 1924، والتي، كما يقر بها محمد شفيق، «لم يطعن فيها أحد بعد». (انظر مذكرات من التراث االمغربي، ج 8، ص 108). وهكذا فإن عثمان السعدي (وهو أمازيغي كالقبايلي سعيد السعدي رئيس "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية") أجرى في كتابه عروبة الجزائر عبر التاريخ، دراسة مقارنة معززة بالأمثلة والقرائن بين الأمازيغية والعربية، فكتب عن تجربته: «إنه تكاد لا توجد كلمة بالبربرية إلاّ ولها وجود في لسان العرب. البربر يسمون أنفسهم الآن الأمازيغ وهي كلمة عربية، الأمازر: الأقوياء أشداد القلوب، وهي من جذر ثلاثي مزر. المرأة تسمى عندهم ثامطوث وبالعربية الطامث أي الحائض. الأرض تسمى أمورث وبالعربية أرض ممرثة إذا أصابها عيث قليل، الجبل يسمى عندهم أذرار من ذروة الشيء»؛ أضف إلى ذلك إعزّابن من العزاب وإهليلن من تهليل وأصكا أو أزكا من زقّ، وأوال من أقوال وغير ذلك من الكلمات التي لا تقل عربيتها عن أخرى كالقبائل والعروش والولاية، إلخ. أكثر من ذلك، هناك من الباحثين من ذهبوا إلى محاولة التدليل على أن الأمازيغ هم من قبائل حمير، وبالتالي متحدرون من أصل يمني قحطاني، أي من العرب العاربة، وهم أكثر عروبة من العدنانيين، عرب شمال الجزيزة المستعربة الذين تنتمي إليهم قريش، قبيلة محمد نبي الإسلام، وقد قال عليه السَّلام في هذا السياق: «أنا أفضل مَنْ نطق الضاد بيد أني من قريش». وهذه الأطروحة يعرضها أو يدافع عنها على أنحاء متفاوتة في الدقة والإقناع كل من غابرييل كامب والمختار العرباوي وفهمي خشيم؛ فهذا الأخير مثلا يقدم في أبحاثه حالات معجمية عديدة بمنهج النبش والتخريج الاشتقاقي الذي يستعمله الباحث في حقلنا اللساني من أجل الوقوف على الجذع المشترك للأسرة اللغوية الحامية–السامية وردّ التنوع اللفظي في عامياتنا ولهجاتنا العربية والبربرية إلى ذلك الجذع. أما محمد شفيق فإنه يقر بوجود قرائن حول وجوه «القرابة القديمة المحتملة بين ئمازيغن واليمنيين»، لكنه يعلق البتّ فيها إلى أن تتقدم الأبحاث اللسانية والأنثروبولوجية. وللتذكير نقول إن مسألة القرابة البربرية – اليمنية قد شغلت في الماضي كبار المؤرخين المسلمين المعروفين، واختص بينهم ابن خلدون بموقف إثبات تلك القرابة إذ يرجح في كتاب العبر (بكلمته «والحق عندي») نسبةَ صنهاجة وكتامة إلى قبائل حمير اليمنية، ويسجل في المقدمة: «وذهب الطبري والجرجاني والمسعودي وابن الكلبي والبيهقي إلى أن صنهاجة وكتامة من حمير، وتأباه نسابة البربر» (ص 16). ولعل الصواب في حدود معارفنا اليوم هو ما سجّله عبد الله العروي، ولو بنوع من الجزم والرغبة في تجاوز الروايات المتعددة المتعارضة في الموضوع ذاته: «كان النزاع بين كتاب الاستعمار، قبيل الحرب العالمية الثانية، حول انتماء الجنس البربري. يصر الهواة والمتطفلون على التاريخ أن البربر من أصل أوروبي، فيما يقرر المتخصصون أن لغتهم تنتسب إلى لغات وحضارات الشرق. اختفى هذا النزاع وأجمع الكل على أن سكان المغرب يتميّزون منذ القدم بالتنوع والامتزاج والتأثر بالجيران، إجماعاً لم ينل منه توالي اكتشافات العلوم التاريخية». ويستشهد بغابرييل كامبس القائل: «إن المغرب فقدَ وحدته الأصيلة منذ العهد الحجري الصقيل، أثناء الألف الثاني ق.م. تحت تأثير حضارات غازية مختلفة: الحضارة الإيبيرية في القسم الغربي، والإيطاية الجنوبية في القسم الشرقي، والصحراوية المصرية في الجنوب، وبقي المغرب الأوسط منطقة مرور بلا ضفاف» (مجمل تاريخ المغرب، ص 41). حاشية إنها لمفارقة غريبة بل عجب عجاب أن نرى ونسمع المسى أحمد بن محمد عصيد يجول ويصول في الصحافتين الورقية والالكترونية، وذلك، حصريا، بلغة عربية لا بأس بفصاحتها، وذلك في أمور عشوائية شتى، معرضا بالتالي عن تفعيل رسمية الأمازيغية الذي لا يفتر عن الدعوة إليه صبحَ مساء؛ هذا في حين أن المنطق يقضي بأن يكون في ذلك وفي الكتابة بحرف تيفناغ المثال والقدوة؛ وإلا فمن الجائز عقلا أن يُسائل: إلى متى وهو يستعمل اللغة العربية في مجمل خرجاته التأليفية والإعلامية معتمدا مقدراتيها البيانية والبلاغية، مع أنه يداوم على التقريع في اللسنان العربي وذم أهاليه؟ أو بعبارات أخر: إلى متى وهو يجلد مرضعته ويأكل الغلة ويلعن الملة؟ سؤال متداول من طرف مثقفين ولغويين متحاشين إثارة جسارة الغلاة المتطرفين (أي "دسارتهم"). وترى أحمد بن محمد يخنط ويلغو في أمور شتى، وهي عنده مجرد هرطقات، من أفدحها: قول "أسلم تسلم" في رسائل النبي محمد الأكرم إلى ملوك وأباطرة زمانه يراه الهرطيق "إرهابا سافرا"؛ والفتوحات الإسلامية كانت من أجل الجنس والمال، وصحيح البخاري ليس "صحيحا"، وذهب إلى التهجم على دماغ الفقهاء وحتى على الدولة الموحدية والخليفة عبد المومن بن علي؛ وقال مطمئنا "لن نطرد العرب"، وما إلى ذلك من ترهات أخرى مفادها أن عقول المسلمين بالجملة والتفصيل متخلفة ولا علاقة لها بالحداثة؛ وكذلك الدعوة إلى مغرب فيديرالي، واعتبار "عبد الاله بنكران من طالبان"، وأن الشعب المغربي غارق في العصور الوسطى، وهم جرا مما هو موثق في ڤيديوهات يوتوب "المزبلة" أو بعض مواقع وصحافة الفيك نيوز والشرشرة. والخلاصة أن العصائدي، كما يجوز نعته إنْ هو إلا واحد ممن يسمونهم في مصر "الكفتحية" (على وزن البلطجية) بل إنه أيضا من أعداء الأمازيغية والمنفرين منها، كما سنظهره بالنص والحجة المفحمة في مقالة قادمة.