لعل الدينامية الأخيرة لعريضة الحياة، المطالبة بإحداث صندوق لمكافحة السرطان، قد رسمت أبرز مثال على إعادة الثقة في المشاركة السياسية والفعل المواطن، كما عززت من المحصول القيمي والروحي بين المغاربة، من أقصى مداشر المغرب إلى أقصى جزر سريلانكا؛ وهي الروح التي أغنت هاته الرسالة والمطلب النبيل، ومنحتها شرعية قانونية ومجتمعية (أكثر من 40 ألف داعم للعريضة)، أضحت من خلالها مبعث فخر ومحل إشادة في الداخل والخارج. إن عريضة الحياة ببساطة مسلك قانوني لمطلب واقتراح "يتوسل" (من الوسيلة وليس الاستعطاف) به المواطنون للسلطات العمومية استصدار إجابات وإجراءات عملية عن المعاناة اليومية للمصابين بالسرطان، والذين شكلوا-بناء على ارتفاع مستوى معدلات الإصابات والوفيات، وقلة بنيات الاستقبال، وضعف منظومة العلاج والطاقة الاستيعابية، وغلاء الاستشفاء، وعدم استفادة معظمهم من التغطية الصحية...الخ-أولوية واهتماما أصيلا بالنسبة إلى مدعمي العريضة. واستتبع ذلك أن تم إيداع عريضة الحياة برئاسة الحكومة في 14 فبراير 2020، وعبر آنذاك أكثر من مسؤول حكومي للجنة العريضة عن انبهار الحكومة من كم هذا الحراك والدينامية الإيجابية التي خلقتها عريضة الحياة في المجتمع، وأعلنوا مجتمعين نية الحكومة التفاعل مع هذا المطلب المجتمعي بشكل إيجابي، وبدء التفكير في السبل والإجراءات التي يمكن أن تحقق الغايات المرجوة. كما طلبت الحكومة من لجنة تقديم العريضة مدها بالممارسات الفضلى دوليا، في مجال دعم ومكافحة السرطان، كما دعت لجنة العرائض وكيل العريضة ونائبه لتقديم توضيحات حول العريضة. هذا الاحتفاء، وإلى حدود اللحظة، كان محل إشادة مجتمعية، وبارقة أمل، واستثمارا إيجابيا للحكومة في مخزون الثقة بينها وبين المواطنين. لكن واستدعاء ل"الزمن الكوروني" وتوقف سريان مفعول الآجال المنصوص عليها في النصوص التشريعية والتنظيمية، ومنها-طبعا- سريان "أجل 30 يوما" لتقديم لجنة العرائض رأيها واقتراحاتها إلى رئيس الحكومة، الذي أحال عليها العريضة يوم 20 فبراير 2020، وكان آخر أجل لبعث ردها هو 20 مارس 2020، الذي صادف أول يوم من أيام حالة الطوارئ الصحية بالمغرب، فإن الآجال المتبقية لرد اللجنة (من الناحية القانونية) هو يوم واحد بعد رفع حالة الطوارئ الصحية، طبعا دون احتساب الأجل الذي يملكه رئيس الحكومة لقرار الرفض (30 يوما)، والأجل المفتوح الذي منحه القانون التنظيمي لرئيس الحكومة حالة قبول العريضة لإخبار وكيل اللجنة كتابة بمآل العريضة أو التدابير التي تعتزم الحكومة اتخاذها "عند الاقتضاء". (خطاطة توضيحية لمسار العريضة المقدمة إلى رئيس الحكومة) أما ونحن نستجلي المبدأ والمنطق، فيجب أن يكون رد لجنة العرائض على مكتب رئيس الحكومة يوم 20 مارس على الأكثر، وإن كان هذا التاريخ تاريخ بدء حالة الطوارئ الصحية، فإن ذلك كان بناء على بلاغ وزارة الداخلية مساء 19 مارس، الذي لم يذكر من قريب أو بعيد توقيف سريان الآجال القانونية، الذي نظمته المادة السادسة من المرسوم بقانون رقم 2.20.293 الصادر في 23 مارس 2020، بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها. إن هذا الوجود الاعتباري للزمن القانوني الذي فرضته حالة الضرورة يجعل منه حالة انتزاعية بين معاناة لا تنتهي ومعاناة "ستنتهي"، ويحيله إلى آلة افتراضية للقياس بين حدث مستمر وحدث "عابر"، وإلى رابط بين وقائع مؤلمة ومآس يومية، مع ظرف زمني وقوانين مؤقتة تحكم تلك الوقائع. كل هذه الاستدعاءات تدفعنا إلى التساؤل: لماذا لم تنصت الحكومة حتى اليوم لهذا المطلب الشعبي؟ لماذا ليس هناك أي حديث عن معاناة هؤلاء المرضى والمصابين المضاعفة في هاته الظروف؟ لماذا يغيب عن الحكومة والأحزاب السياسية وأعضاء البرلمان، وهم يناقشون إعداد مشروع قانون مالية تعديلي، أن هناك مطلبا شعبيا لإحداث حساب مرصد لأمور خصوصية، تحت اسم "صندوق مكافحة السرطان"، له صفة الاستعجال والضرورة؟ وله صفة الانسجام مع الغاية الاجتماعية لمشروع القانون المالي التعديلي؟. أليس احتجاج الحكومة بشماعة الأولويات في هاته الظرفية منطق يفضي إلى سجننا ورهن حقوقنا وطموحاتنا في سجن "الزمن الكوروني"، وقتل الاهتمام بكل الأمراض والأوضاع الصحية الأخرى؟..إن كانت هناك أولويات في أجندة الحكومة على مستوى المنظومة الصحية فلم لا يكون صندوق مكافحة السرطان جزءا منها؟ أليس "كوفيد 19" الظرفي لا شيء (وإن كانت المقارنة لا تستقيم) مقارنة مع مرض السرطان المزمن والمستمر، الذي يصيب 4398 مواطنا مغربيا شهريا، بمعدل فتك يصل إلى 2746 وفاة شهريا (تقرير منظمة الصحة العالمية لسنة 2018)؟. ألا تعي الحكومة أن معاناة مرضى السرطان في هاته الظرفية مضاعفة ومريرة جدا، وآلاف المرضى اليوم لا يتلقون علاجاتهم، بسبب التأخير في توفير الرعاية الصحية الضرورية، وتحويل عدد مهم من الكادر الطبي والممرضين إلى الجناحات الخاصة بكوفيد 19، وخوف المرضى من التنقل للعلاج، وصعوبة السفر لأجل الاستشفاء، وتأخر العمليات الجراحية؛ والأصعب كذلك هو قلة الكشف والتشخيص المبكر..الخ؟. وتأسيسا عليه فالدولة أكثر من أي وقت مضى مطالبة بمجانية الكشف والعلاج، وتوفير بنيات استقبال خاصة لهؤلاء المصابين، والسعي إلى الحفاظ على أرواح هؤلاء المواطنين. يجب أن تعي الحكومة أنه من الانتحار السياسي والأخلاقي التنازل عن مطلب أكثر من 40 ألف مدعم للعريضة، (وملايين المغاربة الذين لم يسعفهم التوقيع لاعتبارات وصعوبات من داخل القانون التنظيمي للعرائض) في إحداث حساب مرصد لأمور خصوصية، تحت اسم "صندوق مكافحة السرطان"، طبقا للمادة 26 من القانون التنظيمي رقم 13-130 لقانون المالية، والمادة 29 من قانون المالية رقم 70.19 لسنة 2020؛ لأجل التغطية الشاملة لكل نفقات العلاج في ما يخص مبلغ الدعم، واستهداف جميع مرضى السرطان وبجميع أنواعه. لقد فصلت المذكرة التفصيلية للعريضة موارد هذا الصندوق، وضمّنت الجائب الدائن من حساب الصندوق مقترحات للإعانات المالية والمساهمات، ونسبا بسيطة من حصيلة بعض الغرامات والرسوم، والهبات والوصايا...الخ؛ والتي لن تمس التوازنات المالية للدولة، وبالتالي فما تنقص إلا الإرادة السياسية للحكومة. ويمكن تذكير الحكومة-إن أرادت الاحتجاج بالشق المالي- بأن منظمة العمل الدولية دائما ما تصنف المغرب في تقاريرها بأنه من ضمن البلدان التي لها إمكانات عالية للتغطية النقدية لأرضيات الحماية الاجتماعية، لكنه من البلدان التي لها مستوى جد منخفض من الإرادة السياسية للاستثمار في القطاع الاجتماعي (21.9%مقارنة بإثيوبيا التي لها 69.9% كنسبة إرادة). ولتعلم الحكومة أنه مهما كانت مبرراتها وحججها فلن تصمد أمام هذا المطلب الشعبي، وأمام كل هاته المعاناة المريرة والمتواصلة للمصابين وأسرهم، الذين يعلقون آمالهم على هذا الصندوق، وإلا فإن أي التفاف، أو جواب عام فضفاض، أو رفض للعريضة، سيرتد على الحكومة بالحرج الشديد. ولا بأس من التأكيد أن مطلب العريضة أكبر من مسألة المجانية أو التغطية الصحية، بل المطلب نظام صحي شامل لهذا المرض، نظام منتظم غير جزئي؛ موحد لجميع المواطنين، دون استناد إلى الاحتياجات، والاشتراطات المختلفة، يمول أساسا من الضرائب والإعانات المشار إليها أعلاه دون المس بجيوب المواطنين. وستبقى دينامية مكافحة السرطان حية، وشعلتها متقدة، إلى حين تحقيق مطلب إحداث صندوق لمكافحة السرطان، يوفر تغطية شاملة لمرضى السرطان، ومواعيد قصيرة تحمي صحة المريض من خطر التأخر، وإحداث مستشفيات جديدة تقي المرضى عناء السفر لمئات الكيلومترات، وتوفير أجهزة طبية توفر لهم المراقبة والأشعة والتحاليل دون حجج بالعطالة، وتجنب انقطاع الأدوية الذي يهدد حياتهم، وإحداث مزيد من دور الحياة لحماية أهاليهم من التشرد زمن مصاحبتهم لهم خلال رحلة العلاج الشاقة. نتمنى إذن أن تترجم كل "نوايا" الحكومة إلى فعل، وتستقبل هذه "الهدية" المجتمعية ذات الشرعية المجتمعية بما يليق، وترد بمثلها أو بأحسن منها، وتستنبت بذرة أمل وثقة جديدة. إنها فرصة الاستثمار في ما تبقى من مخزون الثقة. *نائب وكيل لجنة تقديم عريضة الحياة