منذ أن أنعم الله على المغرب بالإسلام عرفت الملكية العقارية نظاما مستقرا، فالشريعة الإسلامية لم تكتف بتكريس الحق في الملكية الخاصة والاعتراف به لكل أفراد المجتمع على اختلاف أجناسهم وشرائحهم وطبقاتهم، بل إن الفقهاء المسلمين بينوا طبيعتها وخصائصها وعناصرها ونظامها وأنواعها وركزوا بشكل خاص على طرق اكتسابها ومساطر توثيقها وحمايتها أمام القضاء مع الحرص الشديد على تحقيق المساواة عند تحقيق الحقوق وعند اقتضائها. وقد ظل الأمر كذلك إلى حين ابتلي المغرب بالحماية الفرنسية التي بسطت سيطرتها على مجموع الأراضي المغربية، عن طريق القضاء على الأعراف والتقاليد التي كانت تنظم استغلالها وسن مجموعة من القوانين للسيطرة عليها، ووضع تنفيذه تحت إشراف جهاز إداري بالمغرب بدل جهاز قضائي في محاولة منه لتعطيل الملكية العقارية في الفقه المالكي الذي كان قائما على القضاء. وبحكم الموقع الجغرافي للمغرب المطل على بحرين في الشمال والغرب، ولقربه من أوروبا ولحضارته العربية والإسلامية ولمكانته الاقتصادية في القارة الإفريقية، وللربط التجاري الذي كان يقوم به مع الكثير من دول الشمال والجنوب والشرق، وبالخصوص ما يعرف منها بالقوافل التجارية الثلاث، كان محط أنظار واهتمام العديد من الدول التي كانت تسعى إلى ربط علاقات تجارية معه، أدت إلى إبرام العديد من اتفاقيات الصداقة والتجارة، وكانت تطرح مسألة تمليك رعايا هذه الدول لعقارات، ومنح رخص لبنائها بالمغرب، والجهة القائمة بذلك، والتشريع المطبق وكيفية تطبيقه، والسلطة المخولة لها صلاحية البت في النزاعات المترتبة عن اقتناء الأجانب لهذه العقارات، وذلك راجع إلى مبدأي سيادة الدول على أراضيها أو جنسية العقارات، أو إخضاع العقار لقانون موقعه الذي يحدد وجود هذه الحقوق العينية أو عدم وجودها، وقد توجت هذه الاتفاقيات بالاتفاقية المعروفة باتفاقية الجزيرة الخضراء بتاريخ 03 أبريل 1906، حضرتها أزيد من 14 دولة بالإضافة إلى الحكومة المغربية، وعلى الرغم من كل هذا ونظرا للأطماع الاستعمارية فقد أدى الوضع السياسي المتأزم في المغرب إلى احتلاله وفرض الحماية عليه. وتجدر الإشارة إلى أن نظام التحفيظ العقاري المغربي مر من عدة مراحل قبل أن يستقر على تطبيق ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري، المتمم والمغير بالقانون 14.07. وهكذا نجد أنه ظل يتكون من ثلاثة أنظمة لثلاث مناطق في عهد الحماية، وكان لكل منطقة نظامها الخاص المستمد من مصدر خاص، وذلك لأن المغرب كان مقسما حينها إلى ثلاث مناطق. منطقة الحماية الفرنسية في المناطق الداخلية والجنوب والتي أحدثت بمقتضى الاتفاقية الدولية بين اسبانياوفرنسا بتاريخ 27 نونبر 1912 بمدريد، ومنطقة الحماية الاسبانية بالشمال التي أحدثت بمقتضى الاتفاقية الدولية بين فرنسا وإسبانيا وإنجلترا بتاريخ 27 نونبر 1912 بباريس، ومنطقة طنجة الدولية المحدثة بمقتضى الاتفاقية المؤرخة في 18 دجنبر1923 فقد خضعت لنظام دولي. إذا كان المغرب خضع كما هو معلوم للاستعمار الفرنسي والإسباني فإن كل منطقة استعمارية تخضع لتشريع عقاري مختلف من حيث المصدر التشريعي والمادي أو التاريخي. فالنظام العقاري المعمول به في المنطقة الجنوبية الخاضعة للحماية الفرنسية، مصدره التشريعي هو ظهير 12 غشت 1913، أما مصدره المادي أو التاريخي فهو مقتبس من قانون أجنبي هو القانون الاسترالي المعروف ب"قانون تورانس" نسبة إلى واضعه "روبيرت ريتشارد تورانس"، الذي عرف بدقته في تحديد معالم العقار واكتساب الرسوم العقارية المؤسسة قوة تطهيرية وحجة مطلقة. أما نظام التحفيظ الذي كان معمولا به في منطقة الشمال الخاضعة للحماية الإسبانية فكان يسمى بالنظام الخليفي، لأنه كان يستمد مصدره التشريعي من الظهير الخليفي المؤرخ في فاتح يوليوز 1914 المنظم للسجلات العقارية في المنطقة الخليفية، وهو نظام شبه مستنسخ عن القانون الإسباني آنذاك، والذي جاء يحمل خصوصياته، وبمقتضى هذا الظهير تم إنشاء عدة محافظات عقارية في هذه المنطقة يترأس كل واحد منها مسجل (ريخسترادور) أي المحافظ بمسك سجل بمقر كل محكمة ابتدائية لتسجيل العقارات بالاعتماد على مسطرة الإشهار والتحديد، وهو في الوقت نفسه قاضي الصلح بالمحاكم الابتدائية المختصة ترابيا، ويوجد المسجلون تحت السلطة المباشرة لرئيس محكمة الاستئناف بتطوان. إلا أن هذا النظام العقاري المعمول به في منطقة الشمال يختلف عن النظام العقاري المعمول به في منطقة الجنوب في أهم مبادئ التحفيظ ألا وهي التطهير القانوني والحجة المطلقة، ذلك أن عدم توفر إسبانيا على الأطر الكفيلة بإنجاز خرائط طبوغرافية تلازم الرسوم العقارية المؤسسة للعقارات المسجلة وتخلف تقنيات التحديد المعتمدة لديها، قد انعكس بوضوح على دقة عملية التحديد وحجية التسجيل المجرى. وعليه فإن هذه الوضعية لم تكن لتسمح بإعطاء حجية مطلقة للرسوم الخليفية المؤسسة، لأن القول بنهائية هذه الرسوم وعدم قابليتها للطعن، يعني تكريس أوضاع غير عادلة، وهذا ما قرره المشرع فعلا، إذ نص في هذا النظام الخليفي المحدث بمقتضى الظهير الخليفي لفاتح يوليوز 1914 على أن الشهادة الأولى (الرسم العقاري) يمكن أن تكون موضوع إلغاء إذا ما صدر في حقها حكم نافذ المفعول "تعتبر هذه الشهادة والتصميم المرفق بها بمثابة رسم ملكية العقار الذي يلغي ما عداه من الرسوم ويحل محلها، وتعتبر هذه الشهادة نقطة انطلاق بالنسبة لجميع ما ينشأ من حقوق عينية وتحملات عقارية على العقار، وتكون لها الأسبقية على جميع الرسوم أو الوثائق غير المسجلة ما لم تلغ بحكم نافذ المفعول"، كما تميز هذا النظام العقاري باختيارية التحفيظ بقابلية الرسم الخليفي للطعن ولا يأخذ صبغته النهائية إلا بعد تقييد لاحق (التسجيل الثاني)، وبذلك فالنظام الخليفي مشوب بعيب عدم التطهير نظرا لعدم وجود تقنيات طبوغرافية ما أدى إلى احتمال حدوث تداخل في ما بين العقارات من جهة، وكذا وجود أكثر من رسم للعقار الواحد من جهة أخرى، لكنه كان أكثر توفيقا بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة للأفراد. أما بالنسبة لنظام التحفيظ العقاري المعمول به في طنجة الدولية فكان يستمد مصدره التشريعي من ظهير 15 يناير 1925 الذي وقع نسخه بمقتضى القرار الوزيري رقم 60.809 الصادر بتاريخ 18 غشت 1960 القاضي بتمديد نظام التحفيظ العقاري الجاري به العمل في المنطقة الجنوبية على طنجة. وفي واقع الأمر، إن هذه الظهائر جاءت بهدف تحقيق غرض أساسي وموحد في ما بينها وهو تمكين المعمرين الفرنسيين والإسبانيين وغيرهم من الأجانب من الاستيطان بالمغرب بشكل قانوني، نظرا لما تقدمه من ضمانات قانونية قوية للملكية العقارية والحقوق العينية الواردة على العقار، على اعتبار أن الملكية العقارية هي الوسيلة الناجعة للاستعمار الأبدي. وبهذا يمكن القول إن المغرب في هذه المرحلة التاريخية عرف ازدواجية على مستوى الرسوم العقارية؛ ففي منطقة الحماية الفرنسية يمكن الحديث عن رسوم عقارية تتمتع بالحجية المطلقة والحصانة المطلقة في حين المنطقة الخليفية الشمالية عرفت ما سمي بالرسوم الخليفية، تتمتع بحجية نسبية فقط بحيث تبقى قابلة للطعن فيها من قبل من له مصلحة في ذلك. وقد أفرزت هذه الأخيرة مشاكل عملية جمة نظرا للعشوائية التي كانت تؤسس بها هذه الرسوم، وعلى العكس من ذلك كانت الرسوم العقارية المؤسسة في المنطقة الفرنسية مضبوطة بشكل كبير حيث عملية التحديد ورسم معالم العقار بكل دقة. غير أن هذا التعدد في مصادر الأنظمة العقارية بالمغرب في عهد الحماية الفرنسية والإسبانية كانت له انعكاسات سلبية على الوضعية العقارية بالمغرب. الأمر الذي دفع السلطات المغربية غداة الاستقلال إلى تمديد نظام التحفيظ العقاري الذي كان معمولا به في المنطقة الجنوبية بمقتضى ظهير 12 غشت 1913 على مجموع التراب الوطني بما في ذلك المنطقة الشمالية ومنطقة طنجة الدولية. ففي منطقة الحماية الإسبانية الشمال، ورغبة من الإدارة المغربية في تجاوز سلبيات الرسوم الخليفية عملت على إحداث مسطرة خاصة بإعادة التحديد بمقتضى المرسوم الملكي بمثابة قانون رقم 66.144 المؤرخ في 24 أكتوبر 1966، الذي عمل على تمديد ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري والنصوص اللاحقة به إلى المنطقة الخاضعة سابقا للحماية الإسبانية. هذا ونظرا للصعوبة التي واجهت مصالح المحافظة العقارية أثناء تطبيق هذا المرسوم خاصة حدود الرسوم الخليفية التي أعيد تحديد عقاراتها التي مر على تأسيسها أزيد من عشر سنوات عند حلول تاريخ 24 أكتوبر ،1966 أو كانت بنفس التاريخ متوفرة على تقييد لاحق غير قابلة للطعن في الحقوق المرتبطة بها، والتي لم يحدد المشرع ما المقصود بالحدود، مما فتح الباب أمام النزاعات على الرسوم الخليفية كيفما كان نوعها، الأمر الذي دفع المشرع إلى إحداث ظهير 19 شتنبر 1977 الذي قضى بإلغاء مقتضيات الظهير الخليفي السالف الذكر، وكذا المرسوم الملكي المذكور ومنح فرصة للحائزين على رسوم عقارية مسلمة من طرف المسجلين لتقديم طلب تحفيظ عقاراتهم مجانا، طبقا لمقتضيات ظهير 12 غشت 1913 الذي أصبح موحدا على جميع التراب الوطني، يستوي في ذلك أن تكون هذه الرسوم مضى على تأسيسها أكثر من عشر سنوات أو متوفرة على تقييد لاحق أو دون ذلك إذ تصبح جميعها بمجرد تحويلها إلى مطالب للتحفيظ قابلة للتعرض، وإلا اعتبرت بعد ذلك مجرد وثيقة تأسيسية لا غير. لكن هذا الأمر خلق انتقادا واستياء لدى الكثير مما أدى بالمشرع إلى تعديل مقتضياته، فبادر إلى إصدار الظهير الشريف رقم 1.89.167 بتاريخ 9 نونبر 1992 أقر بموجبه مسطرة خاصة على غرار المرسوم الملكي السالف الذكر بشأن الرسوم العقارية المحررة سابقا من طرف المسجلين والتي لم تخضع لمقتضيات القوانين السابقة، رادا بذلك الاعتبار للرسوم الخليفية التي مر على تأسيسها أكثر من عشر سنوات أو متوفرة على تقييد لاحق بنفس التاريخ، ونص على أنها غير قابلة للطعن إلا من طرف المجاورين للعقار، دون الآخرين، أما الرسوم الخليفية التي حررت بعد سنة 1956 فيمكن أن تكون موضوع تعرض سواء على حدودها أو على حق الملكية أو على الجميع. كما أضاف ظهير9 نونبر 1992 شرطا آخر للرسم الخليفي المؤسس قبل سنة 1956، من أجل أن تعطى له هذه الحجية وهو توفر صاحبه على حيازة شرعية وهي المسالة التي أهملها ظهير24 أكتوبر 1966، وقد مدد المشرع المغربي العمل بهذا المسطرة إلى حدود نهاية 2006. أما منطقة طنجة الدولية فقد أحدث بها نظام يطابق نظام التحفيظ العقاري المعمول به في المنطقة الجنوبية، دون خلاف يذكر وقد صدر بمقتضى ظهير 15 يناير 1925، كما سلف الذكر. وبعد استقلال المغرب وبقرار وزيري مؤرخ في 18 غشت 1960 تم توسيع مجال تطبيق نظام التحفيظ العقاري المعمول به بمقتضى ظهير 12 غشت 1913 على منطقة طنجة دون أن يثير هذا التمديد أية صعوبة أو اختلاف نظرا لتطابق النظامين. إلا أن استمرار العمل بظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري من طرف المشرع المغربي بعد الاستقلال جعله موضوع دراسات معمقة من طرف الكثير من الباحثين والفقهاء ورجال القانون والقضاء، فمنهم من أيده واعتبره قانونا ينبغي الاحتفاظ به، ومنهم من انتقده بشدة واعتبره امتدادا للفكر الاستعماري في القوانين التي أتى بها وبقيت مطبقة في المغرب بعد رحيله. ومنهم من اعتبره كأي تشريع يواجه مجموعة من المشاكل مثل مشكلة الثغرات، مشكلة الملاءمة، ومشكلة الحاجة إلى التطوير. *ماستر في القانون الخاص تخصص الدراسات العقارية.