شهد المغرب، بالموازاة مع التدابير المعتمدة لمواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد، دينامية لافتة للنظر على مستوى العمل التطوعي، انطلقتْ بإحداث صندوق لتدبير جائحة كورونا بتعليمات ملكية، يوم 16 مارس الماضي، بلغ مجموع موارده 32.7 مليارات درهم، إلى حدود يوم 19 ماي المنصرم. وكان لافتا للانتباه تنامي أشكال التضامن والتطوع التي تم التعبير عنها من قِبل أشخاص معنويين وكذا من قبل الأشخاص الذاتيين، لتمويل صندوق تدبير جائحة كورونا، المموَّل جزء منه من الميزانية العامة للدولة ومساهمات العديد من الهيئات والمؤسسات العمومية وشبه العمومية؛ ما مكّن من تعبئة موارد مالية إضافية مهمة على شكل تبرعات. وموازاة مع التطوّع المادي المعبّر عنه من طرف الهيئات والمؤسسات والأفراد لتمويل صندوق تدبير جائحة كورونا، فقد برزت مبادرات تطوعية عديدة للمواطنين وللمواطنات والجمعيات في جميع مناطق المغرب، وفي مجالات شتى، تشمل التحسيس والتوعية بمخاطر الجائحة وبالممارسات الجيدة الكفيلة بالمساعدة على مواجهتها. وشملت المبادرات التطوعية، التي ما زالت مستمرة إلى اليوم، الدعمَ النفسي والاجتماعي للمواطنين، وخاصة للفئات الهشة، إضافة إلى تقديم كل أشكال الدعم والمساعدة الماديين للفئات المحتاجة إلى المساعدة، من خلال مبادرات خيرية وإحسانية متنوعة. فكيف يمكن تفسير الإقبال المكثف للمغاربة على التطوع والتضامن والتكافل في زمن كورونا، وفي زمن راجت فيه تقارير دولية صنّفت المغاربة ضمن الشعوب الأقل تكافلا؟ جواب هذا السؤال وأسئلة أخرى في الحوار التالي، مع الأستاذ فوزي بوخريص، أستاذ علم الاجتماع بجامعة ابن طفيل بمدينة القنيطرة... ما هو تعريف العمل التطوعي من وجهة نظر سوسيولوجية؟ بداية، لا يمكن فهم التطوع سوسيولوجيا بدون الانفتاح على إسهامات: سوسيولوجيا الوقت الحر temps libre والترفيه loisirs وسوسيولوجيا الجمعيات، بل وسوسيولوجيا الشغل والتنظيمات؛ لأن تطور العمل التطوعي في المجتمعات الحديثة غير مفصول عن تطور الوقت الحر، وعن التحولات التي عرفها عالَم الشغل (تقليص ساعات العمل، ارتفاع مدى الحياة وإمكانية استثمار مرحلة العمر الثالث وزمن التقاعد... إلخ)... الخ. فالعمل التطوعي إذن هو، أولا، جزء لا يتجزأ من "الإبداعية الغنية التي يتم خلقها خارج أوقات العمل" وخارج الوقت الأسري ووقت الدراسة والتكوين، وهذا العمل يختلف عن العمل المأجور ذي الطابع الإلزامي والإكراهي. والعمل التطوعي، ثانيا، هو فعل حر وطوْعي، يجسّد قيم التضحية والتضامن والعطاء والغيرية؛ لأنه موجه إلى الغير، وهو في الآن نفسه يسمح للإنسان المتطوع بتحقيق ذاته، من خلال سعيه وراء غايات يؤمن بها ويتوافق حولها مع غيره. وهناك اليوم لفْظان في اللغة الفرنسية للدلالة على العمل التطوعي، هما bénévolat و volontariat. بحيث نسمي الشخص الذي يقوم بعمل تطوعي: volontaire أو bénévole. وحتى لو كانت الكلمة الفرنسية الدالة على المتطوّع volontaire تميل إلى الإشارة إلى ما تفيده الكلمة الفرنسية الأخرى: bénévole، فهناك اختلاف بينهما، بالنظر إلى أنهما تأخذان معانٍ جديدة في إطار الأنشطة الإنسانية الراهنة. فالمتطوع بمعنى bénévole، هو شخص يقوم بما يقوم به بطيبة خاطر (بحرية وطواعية)، يقوم بشيء يريده ويسعى إليه، والنشاط ذو الطبيعة الاجتماعية الذي يقوم به لا يستهدف الربح من ورائه (تلقي مقابل مادي أو أجر). والمتطوع بمعنى bénévole يتصرف بشكل فردي أو جماعي، حسب الحالات، خارج إطار أنشطته المعتادة، سواء كان طالبا، أجيرا، ذا مهنة حرة، بدون عمل أو متقاعد. أما المتطوع بمعنى Volontaire فيدل على المعنى السابق نفسه، مع شرط أن يكون لهذا المتطوع بمعنى volontaire تعويض مادي، تبعا لعَقد يربطه مع الجهة التي يقوم بالتطوع لفائدتها، فهذا النوع من التطوع تعاقدي. ويشير هذا اللفظ في الغالب إلى ذلك الشخص الذي يوقف أنشطته في لحظة ما من مساره المهني أو الدراسي (طالب، طبيب، مهندس...إلخ)، ويرتبط بعقد تطوع contrat de volontariat مع منظمة ما، محلية أو دولية، ويذهب في مهمة يكرس لها وقته كله، سواء داخل البلاد أم خارجها. ويتلقى المتطوع volontaire كمقابل لما يقوم به من أنشطة تطوعية تعويضات معاشية، ويستفيد من امتيازات عينية، من تغطية اجتماعية وتأمين صحي... إلخ. ماذا عن التطوع في المغرب بمعنييْه؟ في السياق المغربي، هناك استعمال مكثف لمفهوم العمل التطوعي بمعنى bénévolat، والذي يمارَس بشكل خاص في إطار العمل الجمعوي (أو أيضا العمل النقابي أو الحزبي). بينما يلاحَظ بأن هناك توظيفا ضيقا لمفهوم العمل التطوعي التعاقدي Volontariat، مقارنة مع ما هو عليه الحال في بلدان أخرى (خصوصا الغربية)، فهذا المفهوم ارتبط أولا بجمعيات الأوراش التي ظهرت قبيل الاستقلال، واقترن كذلك بعلاقاتِ عدد الجمعيات المحلية مع منظمات دولية، ومع الحركة التطوعية العالمية.. وارتبط المفهوم كذلك باحتكاك التنظيمات التطوعية المغربية بالشركاء الأجانب. وفي هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى مثال منظمة الهلال الأحمر المغربي، الذي تأسس سنة 1957، على أساس التطوع. هل يمكن اعتبار العمل التطوعي، الذي يعرفه المجتمع المغربي اليوم، استمرارا لأنشطة التطوع العفوية التي ميزت المغاربة عبر التاريخ؟ صحيح أن المجتمع المغربي عرف، عبر تاريخه، ممارسات اجتماعية تضامنية وتطوعية شبيهة بما نعاينه اليوم على مستوى الأنشطة والتنظيمات التي نصطلح عليها "التطوعية"؛ لكن في الواقع هناك اختلاف بين العمل التطوعي اليوم ونظيره في الماضي، راجع إلى الاختلاف بين نسقين اجتماعيين متمايزين جوهريا: نسق تقليدي تقوم فيه العلاقات على رابطة الدم والقرابة ووحدة الانتماء للمجال، وتتوارى فيه ذاتية الفرد وراء سلطة "النحن" (سلطة القبيلة و"الجماعة"..)، ويكون فيه التطوع واجبا جماعيا أو إكراها جماعيا. أما النسق الاجتماعي الحديث فتقوم فيه العلاقات على التعاقد بين ذواتٍ مستقلة وتتمتع بحرية الإرادة والاختيار من أجل التطوع أو عدم التطوع (التنظيمات المدنية التطوعية اليوم (الجمعيات مثلا) هي اتفاقات وتعاقدات بين أشخاص أحرار ومستقلين، من أجل تحقيق أهداف ومشاريعَ متوافق حولها، بشرط ألا تكون غايتُها الربح...). وإذا كان العمل التطوعي bénévolat ظاهرة تاريخية مميِّزة لتاريخ العلاقات البشرية، فقد أضحى اليوم يحتل مكانة مهمة وغير مسبوقة داخل المجتمع الحديث؛ بل ويمكن القول إنه سيزداد أهمية مع مرور الزمن، بالنظر إلى حاجات المجتمع المتزايدة باستمرار بفعل مشكلاته الاجتماعية والصحية والبيئية والاقتصادية المتزايدة، في مقابل محدودية موارده والفرص التي يتيحها في مجالات التشغيل، التعليم، التطبيب... إلخ... ولهذا، هناك اليوم وعي متزايد بأهمية العمل التطوعي بالنسبة إلى الإنسان وإلى المجتمع وإلى البشرية جمعاء، يتجسد ذلك من خلال تجند الأممالمتحدة للتحسيس بقيمة العمل التطوعي ودوره الأساسي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وللنهوض بهذه الممارسة الإنسانية وتطويرِها، خاصة في المجتمعات التي تعرف تأخرا على هذا الصعيد. ويمكن اعتبار إصدار الأممالمتحدة لإعلان عالمي للتطوع وتخليد يوم عالمي للتطوع (يوافق يوم 5 دجنبر من كل سنة)، تتويجا لهذا الاهتمام. ما أهمية التطوع بالنسبة إلى مجتمع مثل مجتمعنا المغربي، خاصة في مثل هذه الظرفية الاستثنائية التي نعيشها اليوم جراء تفشي جائحة كورونا؟ يمكن أن نميز في أهمية التطوع وقيمته بين مستويين: العمل التطوعي هو نشاط اجتماعي ذو مردودية مادية/اقتصادية، حتى وإن كان لا يتم الانتباه إلى هذه المردودية بشكل كاف، حيث إن التصور السائد حول العمل التطوعي لا يزال لا يأخذ بعين الاعتبار قيمة العمل التطوعي وأهميته، سواء على مستوى ما تقوم به التنظيمات التطوعية من برامج ومشاريع وأنشطة في شتى المجالات التنموية أم على مستوى البرامج والسياسات العمومية، إذ لا يزال يُنظر إلى العمل التطوعي على أنه يندرج ضمن الأنشطة التي لا مردودية مادية لها؛ على الرغم من الأهمية المتزايدة للعمل التطوعي في حياتنا، والدور المتعاظم الذي تضطلع به فئة المتطوعين داخل المجتمع المعاصر عموما، ومجتمعنا بشكل خاص (لننظرْ ما يقوم به التطوع في مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ومشاريع مؤسسة محمد الخامس للتضامن، وخاصة مشاريع الجمعيات وأنشطتها في شتى المجالات وفي كل مناطق المغرب...). في العقود القليلة الأخيرة فقط، بدأ اهتمام الباحثين الاقتصاديين بقطاع الأنشطة التطوعية، بإخضاعها للتكميم والقياس، باعتبارها أنشطة تساهم أيضا في الناتج الداخلي الخام لأي مجتمع. في هذا الإطار، قامت جامعة جون هوبكنز الأمريكية، سنة 1990، بتعاون مع قسم الإحصاء التابع للأمم المتحدة وفريق دولي من الخبراء الإحصائيين، بإصدار دليل يحدد إطارا مفاهيميا لجعل العمل التطوعي والأنشطة الخيرية أو الإنسانية، ظواهرَ اقتصادية مرئية تماما، ويحث على اعتماد "حساب ملحق/تابع" compte satellite خاص بالمساهمة الاقتصادية للمؤسسات التطوعية التي لا تستهدف الربح في ميزانية الدول وفي المحاسبة العمومية. ويدعو الدليل بالتالي إلى أخذ العمل التطوعي بعين الاعتبار عند تقييم الثروة الاقتصادية المنتجة والناتج الداخلي الخام... وحدة قياس العمل التطوعي المعتمدة هي إما وحدة قياس زمنية (الساعة مثلا، أو الشغل "المكافئ لدوام كامل"، وإما وحدة قياس النقدية. وفق هذه المنهجية، أنجزت المندوبية السامية للتخطيط بحثا مهما سنة 2007 حول المؤسسات التي لا تستهدف الربح، أبرزت فيه أهمية العمل التطوعي، كشفت نتائجه مثلا عن رقم 352.000 متطوع منتظم (وليس موسميا) في سنة 2007 في خدمة النسيج الجمعوي، أي في خدمة الأنشطة والمشاريع التنموية ببلادنا. هؤلاء المتطوعون خصصوا أكثر من 96 مليون ساعة عمل، وهو ما يوازي 56.524 منصب شغل لدوام كامل. اليوم مثلا، الأهمية الاقتصادية للعمل التطوعي تتجاوز قيمة المساهمات المادية لصندوق تدبير ومواجهة وباء فيروس كورونا لتشمل ساعات وأيام العمل والجهود التي لا تقدر بثمن، التي تطوع بها المواطنون والجمعيات في القرى والأحياء وفي المؤسسات العمومية...الخ. هذا على مستوى المردودية المادية، هل هناك جانب أو جوانب أخرى للعمل التطوعي؟ أهمية العمل التطوعي تعود أيضا إلى أنه نشاط اجتماعي بل نشاط رمزي- قيمي، تتجسد عبره قيم نبيلة، مثل الحرية والمساواة والإخاء والتضامن والتكافل والتضحية...الخ، وهي القيم الضامنة للتماسك الاجتماعي ولتعزيز الروابط الاجتماعية. فأهمية العمل التطوعي لا تكمن فقط في التبرع بالمال وفي المساعدة المادية، على الرغم من أهميتها؛ فهذا الأمر مهم جدا بالتأكيد، وضروري بلا شك، لكن يظل غير كاف. وهكذا فخارج المال، تتعدد أشكال التطوع والتضحية لتشمل: التطوع بالوقت عبر تخصيص ساعات، أيام، أسابيع أو شهور لمساعدة الغير. هذا الوقت له مقابل مادي، لكن قيمته المعنوية والرمزية أكبر؛ التطوع بالكفاءات والمهارات، التي يتميز بها المتطوع على المستويين الشخصي أو المهني؛ التطوع والتضحية بالقدرة على الإبداع، لا سيما في مجتمع ليست له ثروات طبيعية هائلة كالبترول، ورأسماله الأساسي هو موارده البشرية وما تحمله من إبداع وأفكار جديدة ومبتكرة؛ التطوع والتضحية بالإنصات للغير والحوار والتواصل معه... ففي الكثير من الأحيان، يحتاج الغير إلى من ينصت إليه ويقول له ولو كلمة طيبة؛ التطوع بمنْح الأمل، من خلال مدِّ يد المساعدة لشخص في وضعية صعبة، بمنحه لحظة أمل أو ولادة جديدة ... إلخ؛ التضحية بالطاقة والفعل، من منطلق أن امتلاك الإنسان لأفكار هو مسألة جيدة؛ لكن سعي الإنسان إلى تطبيق هذه الأفكار هو مسألة أفضل بكثير، فإرادة الانخراط في العمل والقوة والحزم في الفعل هي أمور أساسية بالتأكيد؛ التضحية بقوة العمل، من خلال المساهمة بالنشاط البدني كساعات أو أيام عمل...إلخ. وتعود أهمية العمل التطوعي أيضا إلى أن المتطوع في ما يقوم به من عمل تطوعي لا يقوم فقط ب"العطاء" والتضحية والتبرع، وإنما أيضا بالأخذ والاكتساب، إذ تتاح له فرصة إثبات ذاته وتقوية كفاءته ومؤهلاته الشخصية والاجتماعية والمهنية، كما يتمكن من تعلم أخذ المبادرة والثقة في النفس والقدرة على التأقلم مع الظروف ويطور كفاياته التواصلية مع مختلف شرائح المجتمع ويكتسب روح العمل مع الفريق... إلخ. بالنظر إلى هذه الأهمية المتزايدة للعمل التطوعي، كيف يمكن النهوض به بالمغرب؟ وما هي التدابير التي ترونها كفيلة بذلك؟ سأشير باختصار إلى ثلاثة تدابير أعتبرها أساسية للنهوض بواقع العمل التطوعي ببلادنا: أولا، هناك حاجة إلى مأسسة التطوع بالمغرب، من خلال إحداث إطار قانوني ومؤسساتي لتأطيره، وسنّ سياسة عمومية تعترف بالعمل التطوعي كما يمارَس من طرف المواطنين المغاربة ومن طرف الجمعيات المغربية ومن طرف البرامج والمنظمات الدولية. ثمة حاجة إلى مأسسة العمل التطوعي ببلدنا على غرار ما يوجد في البلدان الأخرى، خاصة الغربية (فرنسا، بلجيكا، سويسرا، الدنمارك...) بل وحتى الكثير من الدول الإفريقية متطورة في هذا المجال (بوركينافاسو، مالي ، البنين...إلخ...) صحيح أن هناك مجهودا يُبذل في هذا الشأن؛ ذلك أن مشروع قانون للتطوع التعاقدي حاضر في المخطط الحكومي التشريعي... فقط يحتاج الأمر إلى إخراج القانون ثم تفعيله. وهناك حاجة أيضا إلى إجراءات مواكِبةٍ من أبرزها إحداث هيئة وطنية للتصديق certification على الكفايات المكتسبة خلال الأنشطة التطوعية والاعتراف بها وإدماجها في الأطر المرجعية للكفايات في مؤسسات التربية والتكوين...(ضرورة التفكير في إحداث هذه الهيئة بالموازاة مع الإصلاح البيداغوجي المزمع إنجازه في الجامعة).. وهناك حاجة كذلك إلى التربية على التطوع؛ لأن الإطار القانوني والمؤسساتي لا يكفي وحده لحل مشكلة النهوض بالعمل التطوعي، إذ لا بد من تنشئة الأفراد والجماعات وتربيتهم على قيم التطوع في مختلف مؤسسات التربية والتكوين.