في خلاصة مُدهشة لا تحدّها المراحل ولا تؤطّرها الحدود.. وعبر ومضات استثنائية ونادرة وتعابير شديدة الدّلالة، كان الكاريكاتوريست المغربي العربي الصبّان متوقّد الذّهن وسط الفعل والواقع، يقول صباح الخير للوطن وللنّاس من خلال إطلالته اليوميّة السّاخرة بجريدة "العلم". كان ينظر إلى اتّساع المساحة في الهامش، ويحفّز ريشته للانطلاق. في تلك المرحلة المُبكّرة الحافِلة بالتّأمّل، انغمس بكامل وجدانه فيما يراه ويعيشه، مُكرّساً كلّ طاقته وإمكانياته للعمل بروح تأسيسيّة، تستولد الوقائع والأحداث وتنصهر فيهما. والأرجح هو أن الفنّان الصبان كان في الوقت ذاته وهو يعبّر عن القضايا الإنسانية وعن الآراء والمواقف، يحدّد على الجبهة هويّته الفنيّة وملامحه الخاصّة، ويزرع إبداعاته التي ستصير فيما بعد متنفّساً ومرجعاً ومدرسة لكل الممارسين والمهتمّين بالفعل الكاريكاتوري بالمغرب. لقد شكّل "مهْمازْ "، بصوره المتواترة، ومن خلال تتبّعه لتفاعل الأحداث وتشابكها، شخصيّة رمزيّة غير مُحايدة، اختارها العربي الصبان لتعبّر في تراكيب فنيّة دالة عن ألسنة الجميع، حيث صارت نسيجاً منّا وتحوّلت إلى سؤال كبير يطرق أبواب المسؤولين، ويقف في ساحات المعارك وإلى جانب المستضعفين، مدافعاً عن مطالبهم مُنتصراً لصوت الحقّ.. وكاشفاً للحقائق على نحو شديد الإقناع. كانت رسومات الصبان، بكامل صدقها وحيويّتها وإنسانيتها وبقدراتها المُتصاعدة في جانب اقتناص الإشارات والدّلالات، تمارس فاعليتها القصوى، وفي الوقت نفسه تستلهم الكثير من القيم النّبيلة في الدّفاع عن الوطن وعن مرتكزاته وقضاياه المصيريّة، وتبرز جاذبيّتها في انصهار حيوي بين الرّيشة والفكرة وبين بناء عالم فنّي متماسك يمثّل الوعي والأثر الواسع لهذا الفنّان المتميّز. في مكتبه بجريدة "العلم" التقيت مراراً بالعربي الصبان.. واكتملت لقاءاتنا في مقاهي الرباط رفقة الصديقين الإعلامي بوشعيب الضبار والكاريكاتوريست مبارك بوعلي. كان الرّجل شديد الحرص على الالتزام بالمواعيد، وكانت صورته قد ارتسمت في ذهني كمثال فذٍّ ينطوي على رؤى مفتوحة، لتمتدّ بعد ذلك اللّقاءات ونحن نمرّ بأجنحتنا حجراً حجراً محلّقين ب: "السويقة" وشارعي محمد الخامس وعلال بن عبد الله، نتجاذب أحاديث شتّى وننصت إليه وإلى كنوز معرفيّة ووجهات نظر.. فضلا عن طريقته المُمتعة في قصّ الحكايات والنوادر وبواطن الكتب، كان العربي الصبان يستحضرها بحماسة وطلاقة وتشكّل لنا زاداً غنيّاً، كما تعكس متابعاته الواسعة ودقّته العالية في ضبط الكثير من المحطات والسياقات الفكرية والفنيّة والسّياسية. وغالبا ما كان يختم لقاءاتنا به، بروح عالية تفيض بالمرح، مُستحضراً نكتة أو لمعة، فنشرق جميعاً بموجات من الضّحك. لم تكن شخصية رائد الكاريكاتور المغربي، بتواضعها الآسر وبما فيها من عذوبة ومحبّة كسطور الهواء، اكتشافاً لي فقط، وإنّما تعدّته لتصبح أخوّة دائمة تتجدّد باستمرار بوقفات صافية مثل نهرٍ يولد في كلّ مرّة، ناظراً إلى أشرعة الأفق بنبض جديد، مُبحراً بفصول التّفاؤل في هشاشة هذا العالم الغامض؛ فكان لرسوماته وقع مؤثّر وهي تكتسب لوناً مُختلفاً ومُفاجئاً وتحقّق تفاعلا دائباً وعميقاً.. وتعرّي عديد الأمكنة المنسيّة والهوامش. إنّه الكاريكاتوريست العربي الصبّان، ذلك الملمح الفنّي الآخر بحمولته الإنسانية وبذاكرته الفيّاضة وبما رافق سيرته من تطوّرات، يضيء مساحات من الأثر المغربي الفاعل ويغمره بصخب الإيقاع وبإثارته لأسئلة توسّع من حدود التأمّلات. كان يكتب على سطر الطّريق ريعان نبضه ووجوده ويفتح أزهار يديه على الامتدادات.. وظلّ واقفاً شموخ الجبال، مُنصهراً في تربته.. ناثراً ابتسامته الجرّيئة في القلوب.