تواصلنا اليومي بعد الحجر الصحي: ممكنات ومحاذير إن التواصل باعتباره فطرة إنسانية، وضرورة شخصية واجتماعية، لا يمكن للإنسان أن يستغني عنه في علاقاته بمحيطه الأسري والاجتماعي والمهني...إذ من خلال هذه القناة يوطد الفرد علاقاته العامة بالآخرين أو يكسب علاقات جديدة أو يعزز أخرى قائمة، كما أنه ومن خلالها وعبرها يُعبّر الفرد عن حاجياته النفسية والعقلية والعاطفية وغيرها من الرغبات الشخصية أو الجمعية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر... وإذا كان هذا التواصل في الظروف الطبيعية لعموم الناس يتم بشكل تلقائي وسلس، فإنه وفي ظل بعض الظروف الاستثنائية، كتلك التي عاشها البشر جميعا مع جائحة كورونا، التي فَرضت عليهم–في الغالب الأعم- أن يكون تواصلهم "عن بعد"، يفتقد الناس للاحتكاك المباشر بين الأفراد والمجموعات، كما للاجتماع بأعداد كبيرة أو متوسطة في أماكن مشتركة أو محدودة المساحة، كالإدارات والمقاهي والأبناك والمحلات التجارية...أو التواجد بكثافة في أماكن عامة، كالمساجد والملاعب الرياضية والمسارح وقاعات السينما وغيرها... ولا شك أن هذه الوضعية التواصلية الجديدة أصبحت مقرونة بالعديد من السلوكيات الحميدة، من قبيل الالتزام بالنظام والانتظام في الأماكن العامة وفي المواصلات العمومية، والحرص على التباعد الاجتماعي بين الأفراد (مسافة الأمان)، والتخلي عن العادات الاجتماعية في تبادل التحية–بالنسبة للأغراب- أو التقليل منها –بالنسبة للأقارب- مثل المصافحة باليد أو غيرها من أشكال التحية المتداولة بين الناس أو أساليب التعبير عن التعاطف والحنان تجاه الكبار والصغار (المعانقة – التقبيل – الرفع فوق العنق – الضم إلى الصدر...)، والتقليص من اللقاءات العائلية والاجتماعية، سواء تعلقت بالأفراح أو الأتراح، إلى درجة التنازل –على مضض- عن الحضور في مناسبات العزاء الأليمة ولو كانت لأعز الأقارب والأحباب والأصدقاء وتبادل وقبول التعازي عن بعد!!. إلا أن هذه الوضعية التواصلية الطارئة التي فرضتها الجائحة على الناس طيلة فترة الحجر الصحي قد تنتج عنها –لدى البعض- مضاعفات نفسية واجتماعية سلبية ربما تصل إلى حد الوسواس القهري تجاه المحيط الخارجي، أو ربما تُولّد لدى البعض الآخر ما يمكن أن نسميها "فوبيا التواصل بعد كورونا"، ما يستدعي ضرورة التفكير في الضوابط التي من شأنها أن تهيئ عبورا آمنا نحو ضفة ما بعد الحجر الصحي وإعادة التوازن والدفء للعلاقات التواصلية المجتمعية، خاصة في الفضاءات العامة أو المشتركة. وفي هذا السياق، أرى أن تواصلنا اليومي بعد الحجر الصحي ينبغي أن يؤطر بالضوابط الثلاثة التالية: ضابط الوعي، وأقصد به أن المواطنين والمواطنات، ومن خلال مجموع البرامج التحسيسية المكثفة التي وُجّهت إليهم عبر مختلف وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، أصبحوا واعين تمام الوعي بطبيعة فيروس كوفيد 19 وما يتطلب من تدابير احترازية ووقائية فردية وجماعية. كما أنهم أصبحوا مُلمّين بالوضعية الوبائية لبلادنا وما تحقق من نتائج إيجابية في محاصرة هذا الفيروس، وذلك من خلال النشرات اليومية التي تُطلعهم على كل جديد بخصوص الحالات المصابة المؤكدة وعدد الفحوص المخبرية الاستباقية، ونسبة الفتك التي استقرت منذ مدة في 2.6%، ونسبة التعافي التي بلغت في بعض الفترات 90% ومازالت مرشحة للارتفاع –بإذن الله- أضف إلى هذا الوعي بالمضاعفات السلبية التي نتجت عن هذه الجائحة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وما واكب ذلك من جهود لمحاصرتها من خلال عمليات التضامن المؤسساتي والمجتمعي التي عرفتها كل ربوع المملكة... ضابط المسؤولية: لا شك إذن أن الوعي بكل المعطيات المصاحبة للوضعية الوبائية ببلادنا ستجعل المواطنين والمواطنات في عملياتهم التواصلية بعد انصرام فترة الحجر الصحي مُدركين لما يقع عليهم من المسؤولية الفردية والجماعية في المحافظة على هذه المكتسبات الإيجابية، وضرورة التحلي باليقظة اللازمة من أجل تثمينها وتحصينها مخافة وقوع انتكاسة وبائية –لا قدر الله- أو بمعنى آخر إن كان الشوط الأول من مسؤولية مكافحة كورونا كان الرهان فيه يقع على كل المتدخلين في الجبهة الأمامية، من أطقم طبية وشبه طبية وأجهزة أمنية وسلطة محلية بمختلف عناصرها ومكوناتها، وكل الساهرين على توفير الأمن الغذائي والنفسي والاجتماعي للمواطنين والمواطنات طيلة هذه الفترة... فإن الرهان والمسؤولية في الشوط الثاني من المعركة –بعد الحجر الصحي- تقع أولا وأخيرا على الأفراد والمجموعات كل في مجال تدخله و تواصله... إلا أن هذه المسؤولية، وحتى لا تكون مقرونة بشيء من التوتر أو الخوف الزائد لدى البعض، فإنها تحتاج إلى ضابط آخر نسميه "الشجاعة المتبصرة". ضابط الشجاعة المتبصرة، ونقصد به ضرورة مواجهة وضعية ما بعد الحجر الصحي والانخراط فيها بسلاسة وشجاعة متبصرة، أي التخلص من "فوبيا الوباء"، لكن دون استهانة أو استهتار. ولتحقيق هذه المعادلة "السهلة/ الممتنعة" نحتاج جميعا إلى التأقلم مع الضوابط التواصلية التي أفرزتها وضعية كورونا ومنها على الخصوص: احترام مسافة الأمان والتباعد الاجتماعي بين الأفراد، خاصة في المواصلات العامة ومرافق العمل، وتفادي التواصل المكثف في أماكن ضيقة أو محدودة جدا في مساحتها، والالتزام بقواعد السلامة الصحية من نظافة وتعقيم لليدين ووضع للكمامة، والفعالية والنجاعة في تقديم الخدمات في مختلف الأماكن العمومية المشتركة (إدارة – أبناك – مخابز – محلات تجارية...) تفاديا للاحتكاك المكثف بين الأشخاص، واعتماد الخدمات التواصلية عن بعد –كلما كان ذلك ممكنا ومتاحا- أكثر من الخدمات المباشرة... وختاما، نؤكد أن نجاحنا الكبير في معركتنا المجتمعية والمؤسساتية ضد الوباء يرجع في جزء مُعْتبر منه إلى انضباطنا التواصلي "عن بعد" طيلة فترة الحجر الصحي؛ لذا نأمل أن يستمر هذا النجاح بعد عودة التواصل "عن قرب" في حياتنا اليومية، فنكون بذلك قد ربحنا الحسنيين: أولاهما: الانتصار على كورونا، وثانيهما: امتداد جسور التواصل وتدفق دماء الدفء في كل شرايين حياتنا الخاصة والعامة.