ضرب فيروس "كورونا" الجديد الولاياتالمتحدة، في وقت تعيش فيه البلاد انقساما حادا بين معسكر الرئيس دونالد ترامب ومعارضيه، بسبب سياساته الداخلية والخارجية. وسواء تعلق الأمر بمسألة الهجرة أو العلاقات مع روسيا ومحاولات التقارب مع كوريا الشمالية والتوتر مع إيران، ناهيك عن خطاب الكراهية ضد المهاجرين من أمريكا اللاتينية والمسلمين، وغض الطرف عن التيارات المتشددة التي تروج لتفوق العرق الأبيض، والتي اقترف منتسبون لأفكارها أعمال قتل في مدن مثل إل باسو وبتسبرغ؛ فإن التوتر سار سيد الموقف بين أقطاب الطبقة السياسية والرأي العام في أمريكا. وبينما اشتدت حالة الانقسام بين مؤيدي ترامب ومن يحملونه وفاة أزيد من 100 ألف وإصابة حوالي مليون و900 ألف شخص، بسبب تدبيره "الكارثي" للأزمة؛ جاءت الاحتجاجات الجارية ضد مقتل جورج فلويد لتعمق الهوة داخل مجتمع صار منقسما على ذاته بصورة ليس لها مثل منذ عقود. "سلطوية" ترامب و"فوضى" المحتجين رغم أن وفاة جورج فلويد سبقتها حالات وفاة لمواطنين أمريكيين سود عزل على يد عناصر الشرطة الأمريكية بطريقة وحشية وغير مبررة، دون أن يكون ضحاياها قد ارتكبوا أي جريمة، إلا أن عملية القتل هذه شكلت النقطة التي أفاضت كأس غضب تراكم منذ عقود ضد قمع الشرطة في حق جزء من المجتمع الأمريكي لا يزال يعاني من رواسب العبودية، من عنصرية وحرمان من فرص تعليم جيد والتمييز في الحصول على سكن والولوج إلى الخدمات الصحية. ورغم أن الاحتجاجات الشعبية الكثيفة التي اندلعت عقب مقتل فلويد على يد 4 من عناصر شرطة منيابولس بولاية مينسوتا، حركت مياها راكدة في ما يتعلق بمحاسبة رجال الشرطة على جرائهم ضد أبناء العرقية السوداء، إلى أن النقاش بين معسكر المحافظين في الولاياتالمتحدة بقيادة الرئيس ترامب، ومعارضيه من الليبراليين والتقدميين، أعاد إلى الواجهة حالة الصراع بين الطرفين حتى قبل وصوله إلى البيت الأبيض. ويبدو أن المحافظين يصرون على التركيز على كون عدد من المظاهرات خرجت عن طابعها السلمي، بدل الخوض في مسألة العنصرية التي يعاني منها السود الأمريكيون. لغة القوة التي وظفها ترامب في حديثه عن الاحتجاجات والمقاربة الأمنية التي تبناها في التعامل مع غضب الشارع الأمريكي، ناهيك عن تهجمه على عمدتي منيابولس وواشنطن العاصمة وحاكم ولاية مينسوتا، واتهامه لهم بالتراخي في التعامل الحازم مع المظاهرات، كل ذلك مثل دليلا لمناوئي الرئيس بأنه "سلطوي" و"لا يصلح لقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية". وينتقد هؤلاء الرئيس لأنه بدل أن يلعب دور الجامع وموحد صفوف الأمريكيين، اختار معاداة جزء من الشعب "وزرع بذور التفرقة"، على حد قول وزير دفاع ترامب السابق جيم ماتيس. "دونالد ترامب هو أول رئيس أراه في حياتي لا يحاول توحيد الأمريكيين. حتى أنه لا يسعى للتظاهر بأنه يحاول. بدلا من ذلك، إنه يعمل على تقسيمنا"، يقول ماتيس. وانهالت الانتقادات على ترامب بعد قيام قوات الأمن بتفريق المتظاهرين بالرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع، لكي يتسنى للرئيس التقاط صورة وهو يحمل الكتاب المقدس، أمام كنيسة مجاورة للبيت الأبيض تعرضت لهجوم من قبل محتجين. "الرئيس حمل الكتاب المقدس عند كنيسة القديس يوحنا يوم أمس. كنت أتمنى لو أنه يفتح الكتاب المقدس بين الفينة والأخرى بدل التلويح به"، يقول جو بايدن، المرشح الديمقراطي لمنافسة ترامب في الانتخابات الرئاسية في نونبر المقبل. "لو فتحه كان يمكن أن يتعلم شيئا، وهو أننا مدعون لمحبة بعضنا البعض كمحبتنا لأنفسنا"، يضيف بايدن. مشهد ترامب أمام الكنيسة كان محاولة واضحة من الرئيس، الذي لم يعرف عنه أبدا أي التزام ديني، التقرب أكثر من قاعدته الانتخابية المشكلة من المحافظين والمسيحيين المتدينين. وبينما رأى معارضو ترامب في ما قام به مسرحية بإخراج سمج، يصر مؤيدو الرئيس على أنه أظهر أنه قائد حقيقي، وأن الصرامة ضرورية في ظل ما يرونه تقاعسا من الديمقراطيين، من عمداء وحكام عدد من والمدن والولايات عن القيام بواجبهم في حماية الممتلكات وضمان أمن المواطنين. "ليس هناك أي عيب في أن يكون الرئيس صارما. كما ترى، فإن البلاد تعيش حالة من الفوضى"، يقول لاورانس جونز، أحد مقدمي البرامج في شبكة "فوكس نيوز" في حديث مع المحطة ذاتها. التضحية بالأرواح أم التضحية بالاقتصاد قبل أن تندلع شرارة الاحتجاج ضد وفاة جورج فلويد، كان التوتر على أشده بين ترامب ومؤيديه من جهة، والحزب الديمقراطي ومعارضي الرئيس من جهة أخرى، بخصوص تدبير الإدارة الحالية لأزمة وباء "كورونا" الجديد، خاصة أن أثرها لا يقتصر على الجانب الصحي، بل يمتد إلى الاقتصاد وفقدان عشرات الملايين لعملهم جراء الفيروس. في حديثه عن الأزمة، ظل ترامب وفيا لخطاب يمتح من لغة عالمي "البزنس" والتلفزيون اللذين قدم منهما إلى السياسة، بتكراره أن إدارته قامت بعمل جبار في مواجهة الوباء، وأن عدد الضحايا كان سيكون أكبر مما وصل إليه اليوم لولا المجهودات الكبيرة التي قامت بها إداراته، والتي يرى منتقدوه أنها غير موجودة على أرض الواقع. "لقد بنيت أعظم اقتصاد، لكننا قمنا بإغلاقه لسبب وجيه. لقد أنقذنا ملايين الأرواح نتيجة لذلك. أعتقد أنه أمر سيتم تذكره"، صرح ترامب في مقابلة مع شبكة ABC. وبالإضافة إلى تكرار هذه اللازمة والتأكيد على أن الولاياتالمتحدة قامت باختبارات الكشف عن الفيروس بصورة تفوق عددا من الدول المتقدمة مجتمعة، إلا أن منتقديه يردون على ذلك بالقول إن العدد المرتفع جدا للإصابات والوفيات دليل على الفشل الذريع لإدارة ترامب في التعامل مع الوباء. ويذكر هؤلاء بمواقف الرئيس وتصريحاته منذ البوادر الأولى للأزمة، حيث هون من خطورة الفيروس وتنبأ بأن الحالات سوف تتقلص إلى صفر حالة بعد مدة وجيزة، ناهيك عن ترويجه لدواء ضد الملاريا حذر الأطباء من أنه لا توجد أدلة على كونه يصلح لعلاج "كورونا"، فضلا عن أن مضاعفاته قد تكون وخيمة على صحة من يتعاطونه. ويستشهد هؤلاء بدراسات أكاديمية كالتي قامت بها جامعة كولومبيا، والتي أكدت أنه كان يمكن إنقاذ أرواح أزيد من ثلاثين ألف شخص، لو كانت الولاياتالمتحدة فرضت إجراءات العزل الاجتماعي أسبوعا قبل بدء تطبيقه في منتصف مارس الماضي. وإلى جانب خطاب الإشادة بالذات، أثار ترامب حفيظة الديمقراطيين بمحاولاته الدفع في اتجاه عودة الناس إلى العمل، بدعوى أثر الحجر الصحي الكبير على الاقتصاد، ما يجعل ترامب يبدو كمن يحاول تبني الشيء ونقيضه. وعلى ما يبدو، فإن ترامب كان يرى في الاقتصاد، إلى جانب قضية الهجرة، ورقته الرابحة لإعادة انتخابه قبل أن تخلخل أزمة "كورونا" كل الأوراق. دعوات ترامب لإعادة فتح الاقتصاد وجدت آذانا صاغية من طرف حكام الولايات الجمهورية مثل جورجيا وفلوريدا، والتي سارعت بالسماح لعدد من الأنشطة التجارية بالعمل، رغم كون الولاياتالمتحدة لا تزال في مرحلة الخطر، إلى جانب تحذيرات الخبراء في مجال الصحة من مغبة هذه القرارات على ارتفاع حالات الإصابة بالفيروس. وذهب الرئيس أبعد من ذلك، من خلال تغريدات مثيرة للجدل، دعا فيها إلى "تحرير" ولايات يحكمها ديمقراطيون مثل مينسوتا وفرجينيا وميشغان. وبدا مشهد مناصري ترامب وهم يرفعون شعارات ضد الحجر الصحي ولا يلتزمون بارتداء الكمامات والمسافة الاجتماعية المطلوبة، ناهيك عن حملهم للسلاح واقتحامهم مقر برلمان ولاية ميشغان، بدا لمعارضي الرئيس دليلا على ما يرونه سياسة الكيل بمكيالين من طرف الإدارة الحالية. وبينما أحجم الرئيس ووسائل الإعلام الموالية له عن انتقاد هذا السلوك باعتباره نسفا للممارسة الديمقراطية، لم يتوان في المقابل في تصنيف حركة "أنتيفا" اليسارية المشاركة في المظاهرات ضد مقتل فلويد على أنها "منظمة إرهابية". وبينما تستمر المظاهرات ضد العنصرية، ويستمر وباء "كورونا" في حصد أرواح الأمريكيين، يكبر التوتر كل يوم بين الليبراليين والمحافظين في الولاياتالمتحدة على بعد أشهر من انتخابات رئاسية، يبدو أنها ستكون مصيرية في تحديد مسار البلاد في السنوات المقبلة.