نعى مصطفى الكتيري، المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، رحيل الفقيد عبد الرحمان اليوسفي، واختار صيغة المخاطب لتقديم العزاء. وجاء في كلمة مصطفى الكتيري: "فقيدنا العزيز السي عبد الرحمن اليوسفي: تشاء الأقدار الإلهية أن تلبي داعي ربك وترحل عنا إلى دار الخلد والبقاء، وأن نودعك في هذا اليوم الأغر من شهر شوال الأبرك، بعد شهر رمضان الكريم، شهر الصيام والقيام، شهر التوبة والغفران، وهي أيام لها منزلة كبرى عند الله تبارك وتعالى وفي نفوس المؤمنين، وها هم إخوانك ورفاقك على درب الكفاح الوطني وفي الحركة الوطنية والتحريرية والمقاومة، يودعونك الوداع الأخير، تحفك العناية الإلهية ويشملك حب وتقدير كل من عرفوك وعايشوك وجايلوك، إبان فترة الكفاح الوطني وملحمة ثورة الملك والشعب الخالدة". وأضاف الكتيري: "أخانا الأعز السي عبد الرحمن يوسفي، الوطني الغيور والمقاوم الجسور والمجاهد المبرور، تغيب عنا اليوم وقد خلف هذا المصاب الجلل أسى وحسرة ولوعة الفراق في نفوس أسرتك الصغيرة والكبيرة، لكنها مشيئة الله تبارك وتعالى ولا راد لقضاء الله وقدره، ولا نملك إلا الإيمان والتسليم لحكمته ومشيئته سبحانه وتعالى فهو المحيي والمميت". واسترسل المتحدث ذاته بالقول: "ليس لنا في هذه اللحظة المؤثرة ووقفة الوداع الأخير إلا أن نتوجه إلى الباري عز وجل أن يتغمدك بواسع رحمته ومغفرته وعميم رضوانه، وستظل ذكراك العطرة ومسيرتك النضالية الحافلة بالمواقف الخالدة حاضرة في الأذهان، بادية للعيان ومنقوشة في الوجدان بمداد الفخر والاعتزاز، وبالقيم الإسلامية الحقة وبالروح الوطنية الملتزمة والمواطنة الإيجابية". لقد كنت يرحمك الله، يضيف الكتيري، "من الوطنيين الأوائل ومن مناضلي الساعات الأولى والماهدين للعمل الوطني منذ التحاقك في سنة 1943 بمدينة الرباط للدراسة بثانوية مولاي يوسف، حيث تعرفت فيها على الشهيد المهدي بنبركة وتمرست على نشر الوعي الوطني وتنوير أبناء جيلك، فكانت بداية مشوارك الطويل من النضال من أجل استقلال الوطن وحريته". وجاء ضمن الكلمة ذاتها أنه "لما صدر قرار طردك من ثانوية مولاي يوسف، عقابا لك على مشاركتك في مظاهرات التأييد والمساندة لوثيقة المطالبة بالاستقلال، التحقت بمدينة الدارالبيضاء وخضت تجربة رائدة وطلائعية في إشاعة الفكر الوطني والممارسة النقابية وسط الطبقة الشغيلة والعمال وتلقينهم مبادئ التنظيم النقابي، فانخرطت في نشاط دؤوب وعزمٍ لا يكلّ، متنقلا بين المعامل والمصانع والمقاولات تحت غطاء تقديم دروس في محاربة الأمية للعمال ودروس الدعم لأبنائهم، مشجعا إياهُم على التعاون والتآزر لتأهيلهم حتى يتمكّنوا من الدفاع عن حقوقهم المهضومة، وليلتحقوا بركْب النضال الوطني من أجل نصرة الوطن واستقلاله". وقال مصطفى الكتيري: "لقد انتقلت سنة 1949 إلى الديار الفرنسية لإنهاء دراستك الجامعية، وتعبأت وانغمرت بحماس وإيثار ونكران الذات في تأطير الطلبة والعمال، مغاربة ومغاربيين، ونشر الوعي الوطني في صفوفهم وبين أحضانهم، ونسجت شبكة علاقات واسعة ووطيدة مع صفوة من المناضلين المغاربيين؛ ولأن أعين المستعمر كانت ترصد حركاتك وسكناتك، صدر القرار بطردك من التراب الفرنسي لولا تدخلات ووساطات حالت دون تنفيذه، ليتم في نهاية الأمر نفيك من باريس إلى بواتيي". وعند عودتك إلى المغرب بعد إتمام دراستك الجامعية، يضيف الكتيري، "اخترت الاستقرار بمدينة طنجة وفتحت مكتبا للمحاماة بها، وصادف هذا الحدث وصول الدكتور عبد اللطيف بن جلون إليها قبلك بقليل، ما شكّل دعما ثمينا وسندا قويا لمكتب فرع حزب الاستقلال الذي كان لك الفضل في تأسيسه سنة 1946، وبعد اعتقال معظم أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال غداة الإضراب العام التضامني مع الشقيقة تونس التي تعرّض قائدها النقابي فرحات حشاد للتصفية، تحوّل ثقل الحركة الوطنية إلى مدينة طنجة، فتأسست بها لجنة التنسيق والاستخبار مؤلّفة من خِيرة المناضلين المتمرسين، من أمثالك وأمثال عبد اللطيف بن جلون والمختار الوسيني وعبد الكبير الفاسي والغالي العراقي والحسين قصارة ومحمد العربي الفحصي يرحمهم الله جميعا". واسترسل الكتيري: "لقد كان لك دورٌ بارز وأساسي في تزويد المقاومة الناشئة بالسلاح بواسطة مبعوثها المرحوم الحسن العرائشي، فواصلت بمعية رفاقك تقديم العون والدعم اللوجيستيكي للمقاومة، إلى أن وقع ما لم يكن في الحسبان باعتقال المقاوم الحسن العرائشي بباريس، وانكشاف أمر علاقته بشبكة ترويج السلاح من طنجة، فصدر أمر قضائي باعتقالك أنت ورفاقك وعبد الكبير الفاسي والغالي العراقي ومصطفى بولوفة وغيرهم". وقال الكتيري: "لقد اضطررت إلى مغادرة طنجة قاصدا مدريد لتلقي العلاج بها بعد المرض الذي ألمَّ بك، لتبدأ صفحة أخرى من النضال بوضع لبنات جيش تحرير مغاربي، بتنسيق مع ثلة وصفوة من المناضلين الجسورين، أمثال أحمد بنبلة ومحمد بوضياف ومحمد خيضر والحسن أيت أحمد والعربي بلمهيدي وحافظ إبراهيم، وبدعم من الملحق العسكري المصري بمدريد، إلى أن تحقَّق المبتغى والمراد بعودة السلطان سيدي محمد بن يوسف إلى وطنه وعرشه وإعلان استقلال المغرب". وحتى وأنت في المنفى، يضيف المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، "دأبت على معانقة قضايا الوطن ومصالحه العليا في قيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالخارج، مثلما نشطت في اتحاد المحامين العرب وفي المنظمات الحقوقية والإنسانية"، مشيرا إلى أنه "غداة الاستقلال، واصلت الجهاد الأصغر بالجهاد الأكبر من أجل بناء وإعلاء صروح المغرب المستقل، ووقفت في صفوف الحركة الاتحادية كامتداد لحركة التحرير الشعبية، فكنت من المؤسسين لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في يناير 1959، وتوليت إدارة الصحافة الاتحادية في جريدة التحرير، وصدح صوتك المدافع عن الحريات العامة الفردية والجماعية وعن حقوق الإنسان وإرساء دولة الحق وسيادة القانون والبناء الديمقراطي". ولأن أطرافا وأجزاء من التراب الوطني ظلت رازحة تحت نير الاستعمار، بحسب الكتيري، "فقد أبيت إلا أن تواصل معركة التحرير، وكنت من السباقين الذين أداروا المعركة السياسية لجيش التحرير بالصحراء المغربية، علاوة على مشاركتك في الحراك السياسي لمغرب الاستقلال، ما عرضك للاعتقال سنة 1960، ثم النفي خارج الوطن الذي امتد إلى سنة 1980". كما أردف مصطفى الكتيري: "تحملتَ بعد عودتك إلى أرض الوطن مسؤوليات ومهاما في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إلى أن تقلدت المسؤولية الأولى فيه، ككاتب أول فأديتها بكل التزام ووفاء وإخلاص وإيثار وأمانة ونكران الذات، وقد شاءت الإرادة الملكية أن تسند لك مسؤولية قيادة حكومة التناوب التوافقي في عهد جلالة المغفور له الحسن الثاني، فتوليتها في مارس 1998 ملبيا نداء الواجب الوطني، لتبدأ مرحلة جديدة من البناء الديموقراطي والمؤسساتي، وإنجاز مشاريع التنمية الشاملة والمستدامة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبشرية". وجاء ضمن الكلمة ذاتها أنه "تقديرا واعتبارا لشخصيتك الوطنية ولخدماتك وتضحياتك الجسام، خصك الملك محمد السادس بتجديد الثقة فيك وإعادة تعيينك وزيرا أولا في الحكومة التي تم تشكيلها في 6 شتنبر 2000، وفي سنة 2016، أشرف الملك على تدشين شارع يحمل اسمك بطنجة، مسقط رأسك تكريما لما تتحلى به من مناقب حميدة وخصال أخلاقية وإنسانية. كما تفضل الجالس على العرش في سنة 2019 بتشريفك بإطلاق اسمك على فوج الضباط المتخرجين من المعاهد والمدارس العسكرية وشبه العسكرية، تكريما لمبادئك الثابتة في حب الوطن، والتشبث بمقدسات الأمة، وبالوحدة الترابية للمملكة". وأضاف الكتيري: "لقد ندرت نفسك وروحك وحياتك مؤمنا بقضية وطنك ومتمسكا بمقدساته، مثابرا في اتصالاتك وعلاقاتك بأقطاب المقاومة وجيش التحرير عاملا من أجل إعلاء راية وطنك وحريته ووحدته، ويشهد لك الجميع بصفاء سريرتك وحسن سيرتك ونبل أخلاقك وسمو مقاصدك ولطف معشرك وصدق رفقتك وجميل وفائك، كنت راسخ الإيمان قوي الصبر ورفيع القدر، ملتزما ووفيا لقضايا الوطن ومصالحه العليا ولمقدساته وثوابته فاعلا للخير ومحبا للغير، خلوقا ومتواضعا تفرح بالوافد عليك، تلقاه بالابتسامة والانشراح وتحيطه بطيب الحفاوة وكرم الوفادة ورحابة الصدر وحسن الاستقبال؛ وهي كلها وغيرها من شيم المؤمنين الصادقين والمناضلين الثابتين على العهد، والمجسدين للقيم والأخلاق السياسية والطهارة النضالية". وورد ضمن الكلمة ذاتها: "أذكر لك وأتذكر ولعل الذكرى تنفع المؤمنين، وجهك البشوش وقلبك المفتوح ولسانك الذي يلهج بالكلمة العذبة. كما أكبر فيك تواضعك وطيبوبتك وأقدر التزامك ووفاءك، وكلها من شيم المؤمنين الصادقين الذين اصطفاهم الله في خلقه"، مضيفا أنه "عندما ألم بك المرض واشتد السقم، تحملت الأمر بصبر وشجاعة الصابرين وإيمان المؤمنين المحتسبين، وبقيت تلقي وتبادل مشاعر الود والتعاطف والتراحم في وجوه المحيطين بك، من عائلتك وأهلك وذويك، وكلهم أمل وتفاؤل في أن تتجاوز ظروف المرض الذي ألم بك وألزمك الفراش، لكن إرادة الله شاءت أن تلبي داعي ربك وتلتحق بجواره فلم يمهلك القدر، فهنيئا لك بلقاء ربك بعد حياة جاهدت فيها وأعطيت الكثير وقدمت لوطنك وملكك جليل الأعمال وكريم الأفضال، فلله ما أعطى ولله ما أخذ". وختم الكتيري كلمته بالقول: "سلام عليك فقيدنا السي عبد الرحمن يوسفي يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حيا، وهنيئا لك أيها الفقيد العزيز وأنت تنعم بجوار ربك راضيا مرضيا، وعزاؤنا ومواساتنا مجددا إلى رفيقة دربك وإلى أسرتك الكبيرة من رفاق المقاومة وجيش التحرير، ولا يسعنا في هذا المحفل التأبيني الخاشع المهيب، إلا أن نذكر قوله عز وجل: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية وادخلي في عبادي وادخلي جنتي، ونتبرك بقوله تعالى: وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون".