في 17 رمضان 1967، انتقل إلى الباري جلّت قدرته الشقيق الأصغر لبطل حرب التحرير الوطنية في منطقة الرّيف مُحمد بن عبد الكريم الخطابي، وبذلك تكون قد حلّت الذكرى الثالثة والخمسون لرحيل الزعيم السّي مَحمّد (فتحاً) بن عبد الكريم الخطّابي تغمّدهما اللهُ تعالى بواسع رحمته. إن الحديث عن هذا الرّجل المتواضع البسيط حديث مُفعم ومُترع بفيضٍ غامرٍ، زاخرٍ، زاهرٍ، غيرٍ ضامرٍ من الحنين والذكريات والمعايشات والحكايات التي تعود بنا الزّمان القهقرىَ لتردّنا إلى عهدٍ مشرق من ماضينا الحافل بالبطولات والتضحيات، عهدٍ مضىَ وانقضىَ وتوارىَ لحال سبيله، وذهب الزّمن القديمُ به وبأهله حميدَا، وانصرم بأناسه الطيّبين وأوليائه الصّالحين وأبطاله المُناضلين وفقهائه المُبجّلين ومُجاهديه الميامين ومُقاتليه الشرسين وشهدائه المُقدّسين، إنّه حديث مُعبق بالحنين النّبيل ومَشحون بالاعتراف بالجميل عن هذا الرّجل المناضل الذي عادةً ما يشحّ ويقلّ ويندر التطرّق إليه في غمرة الحديث عن وقائع ومجريّات وملابسات حرب الرّيف التحرّرية الماجدة التي عرفها المغرب في شماله، وبالذات في منطقة الريف في العشرينيّات من القرن الفارط؛ وذلك أمام الشّهرة الواسعة لشقيقه الأكبر الذي قاد كربّان ماهر ومُحنّك سفينة تلك الحرب الضّروس التي ألحقت بالإسبان أكبرَ هزيمة عرفتها إسبانيا في تاريخها الحربي والعسكري الطويل، من منطلق معايشتي الشخصية مع شقيقه الأصغر السّي مَحمّد الذي كان له هو الآخر - كما يشهد له بذلك المؤرّخون والدارسون - الدّور الطلائعي الكبير في مساعدة ومساندة أخيه في مسعاه نظراً لدراسته علوم الهندسة في المعاهد العليا بمدريد في تاريخِ سابقِ لانطلاق شرارة المواجهة المُسلّحة المشروعة ضدّ المُستعِمر الإسباني الغاشم. عودة إلى الينابيع ماذا عساني أن أقول عن المشاعر الصّافية، النقيّة، المُوفية التي تنتابني وأنا أعود بذاكرتي إلى أيّام الدراسة في الستينيّات من القرن الفارط بمصر المحروسة، فضلاً عن العواطف الرّقيقة والمشاعر الجيّاشة التي خصّني بها ممنوناً، والاستقبال الأبويّ الحارّ الذي قابلني وعاملني به هذا الرّجل الشّهم الذي لن أنساه، ولن أنسى لطفه ونبله وفضائله خلال حقبة وجودي في القاهرة، حيث كنت قد التقيتُ به لأوّل مرّة غداة وصولي إلى عاصمة المُعزّ لدين الله لألتحق بكلية الآداب بجامعة عين شمس، كان الأستاذ توفيق عليّ (المدرّس المصري الذي سبق أن عمل أستاذاً بمعهد أبي يعقوب البادسي بمدينة الحسيمة أوائل الستينيات من القرن المنصرم الذي كان له تأثير سحري وبليغ على جميع مَنْ قيّض الله له حظوة الدراسة والتحصيل على يديْه من تلاميذ هذا المعهد في ذلك الإبّان) هذا الرّجل الطيّب أخبرني إبّانئذٍ عندما علم بوجودي بمدينة الألف مئذنة أنه اتّصل بأحد أصدقائه وهو الأستاذ الجامعي المحنّك بجامعة عين شمس الدكتور إبراهيم أبو ريدة الذي كانت تربطه بالزعيم مَحمد بن عبد الكريم الخطابي صداقة متينة، فاتفق معه على موعدٍ في يومٍ غُرٍّ من أيام الجُمَع للقيام بزيارته والتشرّف بحظوة التعرّف على هذا المناضل الوطني الشّهم في بيته بحيّ العجوزة، وكان منزل شقيقه الأكبر يوجد في حيّ حدائق القبّة في مدينة القاهرة مترامية الأطراف، وذهبنا ثلاثتنا في سيارة الدكتور أبو ريدة المتواضعة (التي كانت تذكّرني بسيارة الدكتور أحمد أمين صاحب المجلدّات الشهيرة فجر الإسلام، ضحى الإسلام وظهر الاسلام) . وفي الخامسة مساء، كنّا في منزل الزّعيم، استقبلنا أحد أبنائه وهو المرحوم السيد صلاح، وأخذنا أماكننا على كراسٍ وثيرة في الصّالون الرئيسي لاستقبال الضّيوف، وبعد هنيهة ظهر لنا الزّعيم السّي مَحمّد آتياً نحونا من بعيد، كان يمشي على صَبَبٍ بتؤدةٍ وتأنٍّ في اعتدالٍ واعتداد، كان يرتدي جلباباً مغربياً أصيلاً، وفوق كتفيْه برنس أو جبّة سوداء، وتعلو رأسَه عمامة مُتقنة الصّنعة، مُحكمة الأطراف بيضاء ناصعة، وكانت تغطّي عينيْه نظارة سوداء داكنة. ابنُ مَنْ أنت..؟ عندما اقترب منّا وقفنا ثلاثتنا، فسلّم على صديقه الدكتور الجامعيّ الذي قدّم له الأستاذ توفيق فسلّم عليه ورحّب به ببشاشة، ثم التفت نحوي فدنوتُ منه وقبّلته في رأسه ثم في كتفه الأيمن، خاطبني بالشلحة الرّيفية (الأمازيغية ) وقال لي ما معناه : "ابنُ مَنْ أنتَ يا ابني العزيز ..؟" لم أذكر له اسمَ والدي لأنه لم يكن يعرفه، ولم يلتقِ به قطّ، ولكنني ذكرتُ له على التوّ اسمَ جدّي، رفيقه ورفيق أخيه في النضال، فقلت له بالرّيفية كذلك: "مِيسْ نمّوحْ نسِّي أحمد خطابي الورياغلي الأجديري..."، فقاطني قبل إتمام الكلمة الأخيرة التي كان ينطق بها لساني وجَناني معاً، وقال بصوتٍ جهوري: الله أكبر.. رافعاً ذراعيْه إلى أعلىَ وعانقني برهةً.. كنت على درايةٍ تامّة، وعلى علمٍ ويقين بسبب انفعاله وسروره، وبدواعي ذلك الاستقبال الحارّ الذي خصّني به أمام الأستاذيْن المصرييْن؛ فجدّي من والدي رحمه الله كان من بين أوائل أعيان ورجالات منطقة الرّيف في "أجدير" الذي بادر إلى تأييده، ومساندته، بل أعلن تضامنه المطلق معه ومع أخيه الأكبر أمام الملأ فيما كان يسعيان إليه لمواجهة الاستعمار الإسباني البغيض عند بداية إعلان انطلاق المقاومة في مؤتمر "إمزورن" المنعقد في يوم 21 فبراير 1921 حسب ما دوّنه صاحب كتاب "أسد الريف " محمد محمد عمر بلقاضي، وصاحب كتاب "حرب الرّيف التحريرية ومراحل النضال" أحمد عبد السلام البوعياشي، وسواهما من المؤرّخين الثقات رحمهم الله. ولقد كان وقوف رجل في حجم (مُوحْ نسِّي أحمد) الذي كان مشهوراً ومشهوداً له بشجاعته التي كان قد نوّه بها نجل الزعيم مُحمد عبد الكريم الخطابي المرحوم الأستاذ إدريس ضمن سلسلة مقالات كان قد نشرها في جريدة "العَلَم " المغربية في السبعينيّات من القرن الفارط عن حرب الريف التحررية يصفه فيها "بالمجاهد الشهيد الصنديد"، ويجمع الرّواة ومعظم المؤرّخين العارفين بتاريخ الريف على أن هذا الشهيد شكّل مكسباً كبيراً ودعماً قويّاً إلى جانب مجاهدين آخرين كبار لما كان يتوق إليه الزعيم مُحمد عبد الكريم الخطابي وشقيقه السّي مَحمد من أهداف شريفة، ومساعٍ نبيلة في هذا القبيل بعد عودة الأوّل من مدينة مليلية المحتلّة، ورجوع الثاني من مدريد، للمّ شمل القبائل وتوحيدها ووضع حدٍّ لمواجهاتها وتناحرها، وإقناعها بأن تقف وقفة رجلٍ واحدٍ لصدّ وردّ هجمات وهمجيّات الاستعمار الإسباني وذلك ما تحقّق لهما بالفعل، إذ إنّ السّي مَحمّدا رحمه الله عندما سلّمتُ عليه كان يعرف جيّداً أنّ المرحوم مُوح نسِّي أحمد أبلىَ البلاء الحَسن في حرب الريف الماجدة، كما أنه كان يعلم علمَ اليقين (كما أخبرني هو نفسُه بذلك فيما بعد) أنه من المجاهدين الأوائل الذين استشهدوا في خضمّ معركة أنوال الكبرى (يوم الأربعاء 21 يوليو 1921) إلى جانب صفوة من المجاهدين الآخرين يذكرهم الأستاذ إدريس الخطابي رحمه الله بتفصيل ضمن مقالاته القيّمة بصحيفة " العَلم" آنفة الذكر. الخامسة من كلّ يوم خميس خلال لقاءاتي المتعدّدة والمتوالية مع الزّعيم السّي مَحمّد كان حديثه الشيّق والمُشوِّق لا ينقطع عن هذا الشهيد، وعن سواه من الشهداء الآخرين الذين أسلموا أرواحهم الطاهرة في ساحة الوغى ببسالة وإقدام عزّ نظيرهما، فقد كان قد أصدر خلال لقائنا الأوّل في منزله أمراً ودّيّاً - حسب تعبيره - لتواضعه وبساطته وعفويته (وهذه الصّفات هي برمّتها من مزايا وشيم العظماء)، حيث كان قد قال لي إبّانئذٍ أمام الأستاذيْن المصرييْن اللذيْن كان لهما الفضل في استقدامي لأتشرّف بلقاء هذا الرجل البسيط الذي أسهم بقسطٍ وافر في صنع تاريخ الريف، وبالتالي تاريخ المغرب، قال: ( آمرك ودّيّاً بزيارتي في الخامسة من مساءَ كلّ يوم خميس إن شاء الله في منزلي هذا بحيّ العجوزة طوال تواجدك بالقاهرة..)، ولقد امتثلتُ، ونفّذتُ هذه الأمنية بالحرف الواحد، وكنتُ حريصاً على زيارته في نفس اليوم والساعة كما أمر. ولقد سرّني كثيراً اختياره ليوم الخميس بالذات، فقد شاءت الأقدار والصّدف أن يكون هذا اليوم هو من أحبّ الأيّام إلى والدي رحمه، الذي كان قد نظم قصيدة خلال وجودنا بتطوان الفيحاء عن رحلة استجمامية لنا إلى نبع (عيْن بُوعنان) جاء في بعض أبياتها: وعند وُصُولكمْ للمكانِ / تغنّوْا بالأشعار يا إخواني… وإنْ عُدتمْ وأنتم ساكتونَ / إلاّ صِبيانُكمْ فلينشدونَ، إلى أن يقول: أعزُّ الأيّامِ عندي يومُ الخميس / فاختاروا له دوماً نِعْمَ الأنيس). ملاحم ومعارك بطولية كان السّي مَحمّد قد أعطى تعليماته لأقربائه وللعاملين في بيته بأن يُفتح لي باب المنزل حتى ولو كان على فراش المرض، وفعلاً في بعض المناسبات كان يفتح لي الباب نجلُه العزيز صلاح رحمه الله، كان السّي مَحمد شخصاً لطيفاً، كريماً، ذكيّاً ألمعيّاً، يقظاً، حاضر البديهة، بسيطاً، متواضعاً، كان الكثير من الناس والأساتذة والباحثين والإعلاميين والصّحافيين من مختلف أنحاء العالم يأتون لزيارته بعد انتقال شقيقه الأكبر إلى الباري جلّت قدرته في السادس من شهر فبراير 1963 ودفن بمقبرة الشهداء بالقاهرة، كان حريصاً على استقبالي بالفعل حتى ولو كان على فراش المرض، وكنت عندما أدخل عليه في حجرة نومه يمنعني من الجلوس قبالته على الكراسي التي كانت موجودة بالحجرة، ويأمرني أن أجلس بجانبه وبمحاذاته على حافة سريره، وعندما يحضر الشّاي الأخضر المغربي المُنعنع اللذيذ الذي تمّ إعداده على الطريقة المغربية الأصيلة يبدأ في الحديث عن بعض المعارك التي دارت رحاها في مختلف مناطق الريف، فالإضافة إلى أمّ المعارك "أنوال" حدّثني عن ملحمة "ادهار أوبرّان"، من أهم المراكز الإستراتيجية التي كان يتحصّن فيها الجيش الإسباني آنذاك، كان موجوداً في قبيلة تمسمان، وعن مركز "إغريبن" الواقع بين قبيلة تمسمان وايت توزين، وكذلك عن مركز "ادرهار بومجان"، و"تيزي وعزا" في قبيلة ايت توزين، و"سيدي إدريس" بقبيلة ايت اسعيد، و"سيدي إبراهيم"، وعن محاصرة آخر مواقع تمركز العدوّ في جبل اعروي (العروي) وسواها من المعارك البطولية الأخرى فضلاً عن "معركتيْ اشّاون" (شفشاون) سنة 1924 والبيبان سنة 1925 ضدّ الفرنسيين. اتّقوا فراسة المُؤمن كان الزعيم السّي مَحمّد كثيراً ما يحدّثني خلال جلساتنا المسائية الجميلة بمنزله بحيّ العجوزة عن المجاهدين وعن الشّهداء الأبرار؛ ومن بينهم (موح نسّي أحمد)، الذي كان معجباً به، وبشجاعته إعجاباً كبيراً... وكان عندما يتحدّث معي (دائماً بالرّيفية) يهزّ رأسَه، ويغمض عينيْه، بين الفيْنة والأخرى، ويزمّ شفتيْه، ويضع يدَه اليُمنى على جبهته، ربما استحضاراً أو استذكاراً لحادثةً مّا، أو لاسترجاع ذكرى عزيزةٍ على قلبه من الذكريات الغالية عن أيام النضال، والكفاح.. وحكىَ لي ذات مرّة كيف أن الشهيد موح نسّي أحمد استشهد على وضوء، وأن آخر كلمة نطق بها قبيل استشهاده هي كلمة: (الله)، وقال لي إنّ معظم المجاهدين كانوا يستحضرون معهم بعض المواد الغذائية البسيطة يقتاتون بها مثل الفلفل الأخضر والتّين المُجفّف وحبّات من البصل وشقفاً من خبز الشعير الأسمر الغامق.. وسأل ذات مرّة أحدُ المجاهدين مُوح نسّي أحمد - بحضور السّي مَحمّد نفسه - فقال له: هل استقدمت معك البصل اليوم..؟ فقال له: لا، هذه المرّة لم أستقدم البصل، وأضاف في مزاح ممزوج بجدّية مُحيِّرة: هل تريدني أن ألقىَ ملائكة الرّحمن برائحة ٍغيرِ مُستحبّةٍ في فمي..؟! وفي نفس ذلك اليوم استشهد وأسلم الرّوح لباريها في معركة "أنوال" بالذات. الحنين إلى الوطن وقلتُ له ذات مرّة: يسألني كثير من الأصدقاء إذا ما كانت تربطني علاقة قرابة بك..؟ فأجابني على الفور: نعم، قل لهم نعم بكلّ تأكيد، وأضاف قائلاً: نحن في أجدير يا بنيّ مثل أسلاك هذا التلفاز الذي أمامنا؛ فكلها متداخلة ومتشابكة فيما بينها، فتعجّبتُ من سرعة بديهته، وحضور فطنته، ودقّة جوابه. وفي إحدى جلساتنا، وهو على فراش المرض، اعترف لي بأنّه عكس ما وقع لأخيه الأكبر، يرجو ويتمنّى من الله تعالى أن يلقى ربَّه في بلده المغرب، كما اعترف لي في العديد من المناسبات كذلك بأنّه كان يحنّ كثيراً إلى بلده المغرب... وبشكل خاص إلى مسقط رأسه ب"أجدير" .. (الذي كان يسمّيه، هو وشقيقه الأكبر) مُستعمليْن صيغة التصغير من باب التلطيف والاستظراف ب: (تَجْدِيرْثْ إِنُو ..) (أيّ أجديريّ العزيز) وهذا ما حدث بالفعل، ففي إحدى زياراته لبلده المغرب توفّي السّي مَحمد بن عبد الكريم الخطّابي إلى رحمة الله، وحقّق الله أمنيته في لقاء ربّه في بلده بعيداً عن مهجره بعد أن أصيب بأزمة قلبية حادّة كانت سبباً في وفاته في 17 رمضان موافق يوم 19 دجنبر 1967 بالرباط. ولم يتمكن من زيارة مسقط رأسه في الرّيف ( أيّ أجدير) إلاّ بعد أن انتقل إلى الباري جلّت قدرته ليوارى الترابَ في ثراه وعلى أديمه بمقبرة "المُجاهدين" إلى جانب أجداده وأناسه وأهله وذويه، وبين بني طينته وأبناء جلدته الذين طالما اشتاقَ إليهم اشتياقاً عظيماً. والحديث ذو شجون، وهو في خلايا الذاكرة وبين أعطاف الوجدان مكنون.. هذا غيضٌ من فيض من ذكريات لقاءاتي مع هذا الرّجل الشّهم، رحمه الله. تحريراً في حيّ المزمّة بحاضرة أجدير (الحسيمة) بتاريخ 22 مايو 2020 خلال الحجر الصحّي لمناهضة الجائحة اللعينة. *كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوتا- كولومبيا.