ها نحن نودع شهر رمضان المبارك لهذه السنة (1441ه)، لتكون إذاعة وقناة محمد السادس للقرآن الكريم قد بلغتا خمسة عشرة سنة من العمل المتواصل إنتاجا وتوجيها وتثقيفا وتأطيرا. هذه الإذاعة رأت النور تنفيذا للتوجيهات الملكية السامية لأمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس أعز الله أمره، الذي أعطى حفظه الله إشارة انطلاقها يوم 2 رمضان 1425 للهجرة الموافق ل 16 أكتوبر 2004، حيث شكل هذا المنبر الإعلامي الديني قيمة مضافة في المشهد السمعي البصري ببلادنا، ليسهم في الوقت ذاته في ترسيخ قيم التسامح والوسطية والاعتدال، توجيها وتثقيفا وتربية وإشعاعا، وهي القيم التي ظلت تميز التدين المغربي عبر تاريخه. شرعت هذه الإذاعة في بث أولى برامجها يوم 29 رمضان 1426ه موافق ل 2 نونبر 2005م، وجاءت تطبيقا لبنود الاتفاقية المبرمة بين وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ووزارة الاتصال والشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، لتأخذ طريقها إلى جانب إطلاق القناة نحو مسيرة إعلامية مغربية ذات توجه وطابع دينيين وسط أمواج من الإذاعات والقنوات الفضائية، إن على المستوى الوطني أو العربي أو الإسلامي، ولتشق هذه التجربة طريقها بخطى ثابته نحو موقع يتماشى وأهمية الرسالة الملقاة على عاتقها، وكذا الدور المنوط بها، وذلك بما يتلاءم ومكانة المملكة المغربية باعتبارها قوة روحية لها تاريخها ومسؤوليتها في العالم الإسلامي. وتجسيدا لهذا التوجه، وطوال خمس عشر سنة من عمر الإذاعة والقناة، أعدت وأنتجت وقدمت كل من إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم وقناة السادسة مجموعة من البرامج التي تعكس الطابع المغربي المرتكز على روح السماحة والانفتاح النابعين من أصل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، مع إبراز الخصوصية المغربية المميزة للنموذج المغربي في التدين، وهي تجمع في الوقت ذاته بين الترويح على النفس والحرص على الإبداع والتجديد انطلاقا من روح الثقافة الإسلامية المغربية الأصيلة. واليوم، ونحن نستحضر بكل اعتزاز وافتخار هذه الذكرى، ومن باب الاعتراف بالجميل، لا يمكن لأي مستمع أو متابع لهذه الإذاعة وكذا القناة ألا يقف على المساهمة القوية والفعالة لهاتين الآليتين الإعلاميتين في تأهيل الحقل الديني، ومدى الإقبال المتزايد عليهما من قبل المشاهدين والمستمعين من جميع الفئات والمستويات، ولتجاوبها مع متطلبات وانتظارات عموم المغاربة. والمتتبع لإذاعة محمد السادس للقرآن الكريم ولقناة السادسة، يخلص دون شك إلى المجهودات القيمة التي بذلت إن على مستوى اختيار البرامج أو على مستوى مضمونها وتنوعها، ليقف على ما واكب ذلك من عمل كبير حتى يتلاءم المنتوج الإعلامي المعروض مع رغبات وطموحات مختلف الفئات الاجتماعية من المستمعين والمشاهدين داخل الوطن وخارجه. ولعل خير دليل على ذلك، ونحن نستحضر جميعا هذه الذكرى الطيبة، ذلك البرنامج التلفزي الجديد الذي أضاء مجالس المغاربة خلال شهر رمضان المبارك داخل الوطن وخارجه، ليجيب عن تساؤلات مغاربة المهجر وانتظاراتهم الدينية والثقافية والفكرية في زمن كورونا، برنامج اتخذ عنوان "نفحات أنس مع مغاربة المهجر"، وتم إعداده وإنتاجه في وقت قياسي من قبل كفاءات مغربية، وتبوأ مكانة لها التميز والتألق، إعدادا وإخراجا وتقديما ومشاركة، ليس فحسب لغنى مواده وتنوعها، ولكن أيضا لحسن انتقاء المتدخلين من خيرة شبابنا وعلمائنا ووعاظنا. هذا التنوع وهذا الغنى الذي يبدو جليا من خلال فقرات تشد أنفاس المشاهدين بين "وعظ وتبليغ" يقدمها خيرة العلماء والعالمات، وفقرة "مديح وسماع" بتعليق العارف بفن المديح والسماع الدكتور محمد التهامي الحراق في جولة مديحية طيلة شهر رمضان المبارك بين مديح سوسي، ومديح فيلالي، ومديح حساني، ومديح أمازيغي، وعمل فاسي، وعمل رباطي، وعمل مراكشي، ومديح عيساوي، ومديح درقاوي، ومديح جبلي، ومديح تهامة...إلخ، ثم تعريف بثلة من العلماء والأولياء الذين عرف بهم الأستاذ عبد اللطيف البكدوري في فقرة "أعلام من السابقين"، أمثال المولى إدريس الأزهر، ومولاي عبد السلام بن مشيش، وابي العباس السبتي، وأحمد بن عجيبة، ومولاي علي الشريف، ومولاي التهامي الوزاني، وسيدي العربي بن السايح...إلخ، وكذا فقرة "مواقيت في تاريخ المغرب "التي تستحضر محطات هامة من تاريخ بلادنا والتعريف بأمجادنا منذ أقدم العصور إلى عصرنا الحديث، إلى جانب فقرات أخرى أعدها مغاربة المهجر مثل "قارئ وقراءات" أو فقرة "تضامن وتواصل" أو فقرة "فاسألوا أهل الذكر"، وهي فقرات متكاملة ومتنوعة تعوض مغاربة المهجر عن غياب المشفعين والوعاظ والقراء والمنشدين الذين دأبوا على تأطير أنشطتهم الدينية الرمضانية كل عام، مثلما تجيب وتستجيب لطموحات وانتطارات المشاهدين المغاربة داخل وخارج الوطن. ولعل ما جسد هذا التميز على أرض الواقع، مع احتفاء القناة بالذكرى الخامس عشرة لتأسيسها، هي تلك السلسلة من "الدروس الحسنية المنيفة" التي أشرقت علينا أنوارها خلال هذا الشهر المبارك، لنقف وقفة ترحم وعرفان وإجلال وتقدير لمحيي الدروس الحسنية جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني قدس الله روحه، حيث استحضر المغاربة قاطبة وتذكروا بكل افتخار واعتزاز، ولكن أيضا بكل تأثر ومشاعر جياشة، دروس تلك النخبة من العلماء الأجلاء أمثال عبد الله كنون وعبد الكريم الداودي ومحمد الكتاني وعباس الجراري والسعدية بلمير وغيرهم، بحضور متميز للعديد من علماء إفريقيا والعالم العربي والإسلامي، إلى جانب السلك الدبلوماسي الإسلامي المعتمد بالمملكة المغربية آنذاك. وهي الدروس الحسنية التي شهد لها التاريخ والعالم أجمع بسمو أهدافها ورقي رسالتها لمدة تزيد عن نصف قرن من العطاء المتواصل، مثلما تجسد اليوم والحمد لله طابع التميز والاستمرارية في عهد مولانا أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أعز الله أمره وخلد في الصالحات ذكره، الذي حمل مشعل المحافظة على هذه الدروس الحسنية المنيفة منذ أن قلده الله أمور هذه الأمة. ولعل قوة المنتوج الإعلامي الديني لإذاعة محمد السادس للقرآن الكريم ولقناة السادسة تكمن، أساسا، في تقديم برامج للمشاهد الكريم تبث باللغات العربية والفرنسية والأمازيغية، كما تتميز بطابع التنوع والتعدد لتنتقل به من برنامج إلى آخر في جولة روحانية دونما ملل أو كلل، نذكر منها على سبيل المثال: حصص التلاوة القرآنية الفردية منها والجماعية التي تؤكد تشبت المغاربة بحفظ القرآن الكريم وتلاوته، مع الحرص على إبراز خصوصية وتنوع صيغ هذه التلاوة التي تكتنزها بلادنا من منطقة إلى أخرى، أو مثل البرنامج التلفزي "يا رب" الذي يقف خلاله معده عند أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم، أو البرنامج الإذاعي "يسألونك" الذي يؤكد حرص المستمعين على طلب أجوبة شافية على أسئلتهم الدينية واستفساراتهم الشرعية المتعددة، أو الكراسي العلمية التي تهدف إلى نشر الوعي الديني الصحيح وفق الثوابت الدينية المغربية بمشاركة نخبة من العلماء المغاربة في مادة التفسير والعقيدة والمنطق والتصوف والقراءات. ولما كان التميز سمة من سمات هذه الإذاعة وهذه القناة، فإن طابع التنوع بدا جليا من خلال برامج تجمع بين البعد الثقافي والديني والتراثي، ومثال ذلك برنامج "قيم وأذكار" الذي جاء ليذكرنا بتشبث المغاربة بروحانيتهم وتعلقهم بالصلاة على الحبيب صلى الله عليه وسلم، وتقديم الدروس الحديثية التفاعلية، إلى جانب برامج "علماء يتذكرون" و"مآذن مغربية" و"القرآن والتفسير" للشيخ المكي الناصري، و"القيم في الإسلام" و"جل تر المعاني". وهي برامج تستنهض الهمم وتبعث الأمل وتطمئن القلوب وتروح على النفوس. وإذا كان شهر رمضان الأبرك، بما له من دلالات ومعان روحانية، يشكل كل سنة محطة إيمانية قوية وقفزة نوعية في مسار إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم وقناة السادسة من خلال إعداد وتقديم برامج ترقى إلى طموحات وطلبات المستمع والمشاهد الكريم في هذا الشهر المبارك، فإن قوة هذه الشبكة الإعلامية تكمن في الاستمرارية في أداء رسالتها طيلة السنة بنفس الحماس والتوجه إن لم نقل بنفس جديد ورؤية متجددة. وخلاصة القول، إن ما تقوم به إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم وقناة السادسة من دور إشعاعي تربوي وديني إن على المستوى الوطني أو بالنسبة لمغاربة العالم، ليبقى خير دليل على أهمية وعمق الرسالة السامية المنوطة بهما وهما تحتفلان بمرور خمس عشر سنة على إنشائهما، وليبقى هذا الدور رهينا بضرورة الحفاظ عليه بل وتطويره والمضي به إلى مستوى أرقى وأفضل، تقديرا وإجلالا للاسم الذي تحمله ولعمق الرسالة التي تؤديها، وهو ما يتطلب المزيد من تكثيف الجهود والحفاظ على مكتسبات هذا المشروع الإعلامي المتميز، الذي استطاع أن يتجاوز الحدود الجغرافية للمملكة المغربية نحو أشقائنا في إفريقيا الذين تربطنا بهم علاقات دينية وروحية عميقة، ناهيك عن الجالية المغربية التي تتابع باستمرار البرامج الدينية على الإذاعة والقناة، مما جعل منهما منارتين علميتين وثقافيتين وتربويتين لفائدة أجيالنا وأبنائنا في ديار المهجر، وهو ما يدعونا جميعا إلى الانخراط الكامل في هذه الرسالة السامية، رسالة السماحة والوسطية والاعتدال التي تتأسس على النموذج المغربي في التدين، كما تترجمه إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم وقناة السادسة.