أدخل سيارتي وأغلق الباب وأنا أشعر بإنهاك شديد.. يوم كامل متواصل من العمل لن يُذهب تعبه سوى حمّام ساخن ونومة عميقة. أفكر بهذا وأنا أهمّ بإدارة محرّك السيارة. أسمع طرقا على الباب فألتفت لأجد متسوّلا يمدّ يده طالبا صدقة.. أفتح زجاج سيارتي، وأضع في كفّه بضع قطع نقدية قبل أن أمرّ بنظرة عابرة على وجهه.. أنظر أمامي وأنا أعتصر ذاكرتي: ترى أين رأيت هذا الوجه من قبل؟ نعم.. إنه هو.. عبد القادر رشيد.. الرّجل الذي تجاوزت عن الانتقام منه منذ سنوات.. لقد مني بخسارة كبيرة في الانتخابات، قبل أن يبدأ تحقيقٌ معمّقٌ في عدد من قضايا فسادٍ كان له يد فيها، بما في ذلك ملف دار الأيتام الذي تمّ البحث فيه من جديد بشكل معمق.. خسر عبد القادر كل شيء. تابعنا أخباره أنا وشروق في الجرائد. وفي كل مرة كانت شروق تربت على يدي وتقول "دع الله ينتقم منه.. وراقب أنت فقط".. وذلك ما كان. كانت العدالة الإلهية فوق ما أتصّور، وبدا أن عبد القادر يؤدي ثمن ما فعله شبراً بشبر وذراعاً بذراع.. قررت أن أنساه تماما وأواصل حياتي دون أحقاد.. بدا لي ذلك أريَحْ، رغم ما كان يجتاحني من كوابيس من حين لآخر.. نسيت أن أخبركم أنني أصبحتُ الآن عمدة لمدينة طنجة.. صحيح أن الأمر يبدو أقرب إلى الجنون لكنه حدث! فبمجرد انتهاء قصة الكتاب، قام صديقنا خالد بحملة إعلامية ضخمة للترويج لما حدث.. وتزامن ذلك مع بدء انهيار إمبراطورية عبد القادر رشيد المالية والسياسية.. فجأة اكتشف سكان طنجة أن هناك شخصا يحبّ المدينة حقّا، وقرروا أنه يستحق تصويتهم.. لا أريد أن أرهقكم بالتفاصيل، لكنني وجدت نفسي فجأة وسط معمعة وحلم كبير استفقت منه وأنا عمدة للمدينة التي أعشقها بعد أن تعلمت الكثير والكثير.. لا أخفيكم سرّا لو قلت لكم أنني في كل يوم أفكر في تقديم استقالتي لما أراه من فساد أمامي يشيب له الولدان، لكنني لو فعلتُ لخنتُ طنجة وأهلها.. أنادي على عبد القادر وأطلب منه الركوب معي في السيارة. يتردد للحظة وهو ينظر إليّ غير فاهم، فأشجعه بإشارة من رأسي.. يركب معي فأنطلق.. أدخل مركزا لإيواء المشرّدين كنت قد أشرفت على عملية بنائه، وأطلب منهم الاعتناء به، واضعا تحت تصرفهم ميزانية خاصة في حالة احتياجه إليها.. راحة كبيرة أشعر بها.. الشارع لا يعلّم الحقد ولا يزرعه.. قد يعذّبك لكنه يؤدّبك إن كان في قلبك مثقال ذرة من رحمة.. أتركه هناك وأعرّج على ملجأ الأيتام حيث نتناول وجبة العشاء معهم أنا وشروق من حين لآخر.. وحيث يتم تحويل نصف راتبي لميزانية الملجأ.. أمر أخير لا بد أن أخبركم به.. من حين لآخر، أترك فراشي الدافئ وأذهب لأختار أي مكان في الشارع وأبيت فيه، تأديبا لنفسي وتذكيرا لها بفضل شوارع حملتني وهناً على وهن.. لهذا، إن رأيتم يوما شخصا لا تبدو عليه أمارات التشرد وهو ينام في شوارع طنجة، فاعلموا أنه أنا.. صديقكم عماد.. المتشرّد!!! (النهاية) * عبد الواحد استيتو، روائي مغربي من مواليد طنجة سنة 1977، حاصل على جائزة الإبداع العربي بدبي سنة 2018 عن أول رواية فيسبوكية عربية بعنوان "على بعد ملمتر واحد فقط" (أو زهرليزا)، ويعدّ من روّاد الأدب الرقمي العربي.. للتواصل مع الكاتب: [email protected] رواية "المتشرد" 25: العودة إلى طنجة والتخطيط للانتقام الأخير