كان عليّ أن أماطل آلفي على قدر الاستطاعة. الرجل يلحّ عليّ لرؤية نسخة من "أفيش" فيلم "Flight To Tangier". من الواضح أن الإغراء كان قويّا، كما أنه يريد التأكّد من حقيقة ما ادّعيت. طلبت منه أن يمهلني فترة قصيرة لأنني مشغول بقدوم زوجتي إلى لندن. لم أجد عذرا غير ذلك حتى نستطيع ترتيب أفكارنا أنا وشروق. أذرع الغرفة جيئة وذهابا، وشروق تشاهد التلفاز بشرود. تسألني بشكل مفاجئ: - لكن، أنت، من أين جاءتك فكرة هذا الإعلان؟ - الحقيقة أن الأمر كان شبيها بومضة لمعت في ذهني فجأة، فعندما كنت أعيش بالشارع كنت أمرّ دائما قرب أحد البازارات الشهيرة بطنجة، وكنت أجد ذلك الإعلان هناك معروضا في الواجهة. وكم فكرت مع نفسي أنه من المستحيل أن يشتري الناس أشياء كهذه. وهاهو الزمن والتجربة يثبتان لي العكس. - تقصد أن الإعلان موجود فعلا؟ ! - على قدر علمي، كان لازال موجودا عندما رأيته آخر مرة منذ شهور... - ياه يا عماد.. الحلّ بين أيدينا ونحن نبحث بعيدا جدا.. لماذا لا نستثمر هذا الحدث فعلا ونحاول بيع الإعلان لآلفي؟ - وكيف نستطيع فعل ذلك في نظرك؟ - ألم تقل أنك تتواصل مع خالد؟ أخبره بهذا المستجد واطلب منه أن يأتينا من البازار المذكور بالخبر اليقين.. ولا تنس سؤاله عن السعر المطلوب.. - والله فكرة مقبولة جدا.. لكن مصيبتنا هي الوقت، فهو لا يرحم.. - لا عليك الآن.. تصرف بسرعة ولندع الباقي لله.. - أحيانا تخيفينني بأفكارك.. - دعكتني الحياة ودعكتها.. الحقيقة أن الفكرة التي اقترحتها شروق كانت منطقية جدا وعبقرية. أولا، سنبعد الشك عن ذهن آلفي نهائيا. ثانيا، سننسج معه علاقة لا بأس بها. ثالثا، سنربح فعلا من عملية البيع هذه إن استطعنا إلى ذلك سبيلا. يردّ علي خالد مؤكدا أن الإعلان لا زال هناك وأن صاحبه يطلب مبلغ 2000 درهم. أتشاور أنا وشروق ونقرر الشراء. نرسل لخالد المبلغ فيقتني الإعلان ثم يرسله لنا بالبريد السريع. من حين لآخر أتصل بآلفي لأؤكد له أنني عند وعدي وأنني أنتظر فقط شفاء زوجتي من وعكة صحية ألمت بها عند قدومها من السفر. أعرف أن هذا يغذي شكّه، لكن لا حيلة لي. في غضون يومين ونصف تقريبا كنا قد أنجزنا المهمة وتوصلنا بالإعلان. نتأمله أنا وشروق ونشعر بحنين جارف إلى تلك الحقبة من زمن طنجة. شروق لديها ارتباط سابق بتلك الحقبة. أنا اكتشفت، ولازلت، ما كانت تزخر به طنجة آنذاك من خلال اطلاعي على تاريخها على الشبكة العنكبوتية. لأول مرّة أدرك أنني كنت أعيش فوق أرض أسطورية وليس مجرد مدينة. أتصل بآلفي وأطلب منه اللقاء في أحد المقاهي القريبة. نجلس بمواجهته ونسلمه الإعلان. يتفحصه باهتمام شديد ويمرّر أصابعه الخبيرة وعدسته المكبّرة على أكثر من جزء فيه. بعينيه الماكرتين يتفحص شروق أيضا وكأنه يحاول أن يتأكد من حقيقة وسبب وجودها. - إذن.. لنكن عمليين..كم تطلبان ثمنا لهذا الإعلان؟ - فلنقل 10 آلاف باوند.. - يووووه.. كثير.. كثير جدا.. كنا أنا وشروق قد اجتهدنا كثيرا في محاولة لتحديد ثمن مثل هذه الإعلانات. عثرنا على مواقع تمنح أسعارا تقريبية لكل التحف بكل أنواعها. عندما أدخلنا اسم الأفيش في أحد المواقع اقترح علينا مبلغا يقارب 15 ألف باوند. قرّرنا أن نخفض السعر قليلا كي نكسب آلفي ولا نخسره. آلفي يمارس دوره كتاجر ماهر لا يشق له غبار. يمط شفتيه ويعيد لنا الإعلان (يستفز ذاكرتي فأستحضر لحظة إعادته للكتاب في طنجة معلنا عدم رغبته في الشراء). أشعر بغضب عارم يجتاحني وكأنه سرق مني ذلك الكتاب للتوّ. أفكر في اختصار كل شيء وتلقين آلفي درسا لا ينساه هنا والآن وليكن ما يكون. يد شروق تربت على يدي وكأنها أحسّت بما انتابني من مشاعر. أشعر بها وكأنها تخاطبني "اهدأ.. ليس الآن.. ليس بعد أن اقتربنا". أطأطئ رأسي محاولا استعادة هدوئي ومحاولا عدم النظر في ملامح آلفي التي بدأت تستفزني. - كم تقترح؟ - هممم.. حسنا.. سأمنحكما 3 آلاف باوند.. والحقيقة أنني سأضيع في هذه الصفقة.. - كلام جميل.. نحن نقترح 7 آلاف باوند، وإن لم يناسبك سنغادر الآن دون كلمة إضافية.. ما قولك؟ تقول له شروق هذا وتعيد الأنبوب الذي يضم الإعلان إلى حجرها معلنة أنه آخر قرار لدينا. شروق ماهرة في التفاوض. أدركتْ أنه من النوع الخبيث الذي يبخس قيمة الأشياء كي يحظى بأفضل صفقة. هي لم تقبل بعرضه، لكنها أيضا لم تصرّ على سعرنا الأول. أمسكت العصا من المنتصف وتركت الخيار لآلفي. - لا تتسرعا.. لولا بعض الالتزامات المالية لكنت قد اقتنيته منكم للتوّ .. المهمّ، لنضع حدّا لكل هذا بمبلغ 6 آلاف باوند.. اتفقنا.. هيا.. ألف باوند لن تصنع فارقا.. تلتقي عيناي بعيني شروق. دون كلام نتفق على أن المبلغ معقول. تومئ لي وأومأ لها دلالة على الموافقة. أقول لآلفي: - حسنا، لك ذلك.. الإعلان هاهو.. فأين المال؟ - هيه.. لا تكونا ساذجين.. تريدان مني أن أحمل المال معي إلى هنا؟ - لا.. بل سننتظرك لتحضره الآن.. أو لا داعي إلى الأبد.. كنا قد اتفقنا على وضعه أمام الأمر الواقع. لم نكن مستعدين لأن يلدغنا من جديد في نفس الجحر. هو مخادع وماكر، وقد يسرق هذا الإعلان مثلما سرق الكتاب.. من يدري؟ ! ينظر إلينا بحذر، ثم يخرج من حقيبته أوراقا نقدية ملفوفة بعناية، بل ويبدو أنه تم عدّها من قبل. ينقصُ منها بضع رزم ثم يسلمها لنا قائلا: - هاهو المبلغ، فأتحفاني بالإعلان.. هيّا.. الوغد كان مستعدا لكل شيء، وكان قد قرر من قبل المبلغ الذي سيدفع تقريبا. هو فقط تعوّد على الغش والمماطلة. نشكره ونسلمه عُهدته مع وعد بلقاء آخر وتحفة أثرية أخرى. تتأبط شروق ذراعي ونغادر. لكننا بمجرد ما نخرج من المقهى نسمع صوت جلبة وصخب. نستدير لنفاجأ بمشهد غريب.. رجال الشرطة البريطانية يحيطون بآلفي ويقتادونه إلى سيارتهم.. أجرّ شروق بسرعة ونختبئ خلف أحد المنازل ونواصل المراقبة. تغادر السيارة بسرعة مطلقة صفيرها المعتاد.. ننظر أنا وشروق إلى بعضنا البعض عاجزين عن الفهم.. ما الذي حدث للتوّ يا ترى؟ رواية "المتشرد" 22: عودة شروق تمهّد لتسريع استعادة الكتاب الأثريّ