غادرت شروق وبقيت أنا والهُريرة والصمت.. أوصلتُها حتى اطمأننتُ على انطلاقها بالسيارة ثم عدت. طنجة أصبحت مدينة متوحشة ولا آمن على من أحبّ فيها بدرجة كافية. والمُصيبة أن يكون من أحبُّ شخصا واحدا لا غير.. إضافة إلى طنجة نفسها طبعا. الحبّ ضعف. فجأة تكتشف أنك أصبحت مهتزّا، رعديدا، خائفا على فقدان من تحبّ. وقد كنت بالأمس – وأنت وحيد - أسدا هصورا لا تبالي بنوائب الحياة ولا تلتفت لأي شيء، ولو قال لك أحدهم أن إعصارا سيضرب طنجة ويذرها قاعا صفصفا لفتحت ذراعيك له وانتظرت – بقلب ثابت – أن ينتهي كل شيء بسرعة. من الشرفة الصغيرة أتأمل حيّ مرشان وظلام البحر الحالك الذي لا يكسر ظلمته سوى ضوء المنار القديم الذي كان في زمن ما يرشد السفن إلى برّ الأمان، ولازال مصرّا على أداء دوره بإصرار لا يلين. أرشف من كأس الشاي الذي تركت شروق نصفه مملوءا. أرشف الشاي بفمي ورائحة عطرها بأنفي. فاجأتني شروق مرّتين: مرّة عندما أخبرتني بالحكاية إيّاها، ومرة عندما أخبرتني بمحتوى تلك الحقيبة الرياضية التي كان يحملها والدها. بصدق، أخبرتُ شروق أنني لست ذلك الشجاع الذي تعتقده وأن ركبتيّ كانتا ترتعشان عندما هدّدني ذلك المجرم بسكينه، لكنني أبيت أن أتراجع. ولأن شروق لديها جواب لكل شيء فقد أخبرتني أن الشجاعة ليست هي عدم الخوف، بل التغلب عليه أو الإقدام على الشيء رغم الشعور به. منطقها يفحمني دائما فآبى أن أكابر وأصمت معترفا أنها على حقّ. شروق تعتبر نفسها مدينة لي بشدة، وتعتبرني الرجل الوحيد الحقيقي الذي عرفته في حياتها. هكذا قالت. حكت لي أنها تعرضت لموقف مشابه وسط الشارع العام عندما نهب أحدهم هاتفها وانطلق. قالت أن الشارع كان مملوءا بالعشرات من الذكور الأنيقين (تصرّ هي على تسميتهم بالذكور)، لكن أحدا منهم لم يحرك ساكنا وأفسحوا الطريق للّص رغم أنه لم يكن مسلحا. هؤلاء ليسوا أشرار أو شياطين، بل كلّ كلامهم الذي قالوه بعد الواقعة فيه مروءة وشهامة، لكنه يبقى مجرد كلام. تلك الثرثرة التي نمارسها يوميا تحت مسمّى "الإتيكيت" كي لا نبصق على نفسنا لو واجهناها بحقيقتها المزعجة. - عشت عشرات المواقف ورأيت المئات. الناس يسبحون في نفاق كبير، ولو قرأت أفكار البعض لأصبتَ بالغثيان. إنهم يتظاهرون، يمثلون، يتقمصون. لكن، لا أحد منهم صادق إلا من رحم ربّي. وكان من حظي أن ألتقي واحدا منهم وأن تثبت لي المواقف، وليس الكلام الفارغ، أنه حقا رجل يفعل ما يؤمن به ولا يتراجع. ولا تدري كم بحثت عن رجل كهذا في أحلامي مذْ وعيت على الدنيا. ما أفعله كما قلت لك، وكما أرى في عينيك، شيء يثير الحيرة والارتباك. لكن، مثلما علّمني والدي، فالأشياء الثمينة لها قيمة لأنها نادرة. وأنت نوع نادر من الرجال لا أريد أن أفقده مهما كان الثمن. الجميل فيما حدث معك أنني رأيت مواقفك وتصرفاتك قبل حتى أن نلتقي، وهذا ما جعل إمكانية الخداع أو التظاهر مستحيلة. سلْ أي امرأة عاقلة ماذا تريد من الرجل، فستجيبك: الصّدق والشهامة. ما كان مفاجئا حقا هو أن الحقيبة، حسب شروق، كانت تحتوي على مبلغ كبير جدا من المال. تقريبا 100 مليون سنتيم بالتمام والكمال. وكانت واحدة من أفضل الصفقات التي أنجزها والدها، حيث استطاع بيع أحد الأبواب القديمة لإسباني مهتمّ بالتحف. الباب كان يوجد بأحد الأحياء التي كان يقيم بها الإسبان بطنجة والمعروفة ب"الباطيو". الباطيو تم هدمه في السنوات الأخيرة من طرف مستثمر عقاري لا يفهم لا في العير ولا في النقير. طردوا سكانه من الطنجاويين الذين أقاموا فيه لعشرات السنين. لم يهتموا لهم ولم يهتموا لقيمته التاريخية. والد شروق، الذي تابع القضية منذ البداية، استطاع فيما يشبه المعجزة أن ينقذ بابا واحدا قبل عملية الهدم، حيث ترجّى سائق آلة "الطراكس" الضخمة أن يسمح له بأخذه فوافق بعد تردّد. لم يبدُ أبدا أن أحدا يهتم إطلاقا بقيمة المكان. الباب كان يعود لنُزُل صغير كان ب"الباطيو"، وكانت مطبوعة عليه لوحة نحاسية بها تاريخ صناعته وهو 1889. احتفظ والدها بالباب لسنوات. خشي عليه من التلف فعرضه للبيع أخيرا، ولحسن حظه وجد مشتريا إسبانيا دفع فيه مبلغ المئة مليون سنتيم، والتي أصر والدها على قبضها نقدا لأنه وأصدقاءه سبق أن تعرضوا للنصب من طرف أجانب. بتلك المئة مليون سنتيم اشترى والدها هذا المنزل الذي أوجد به الآن، والذي كان سيفقده لولا تدخّلي. وكأني بشروق قامت بعملية حسابية من نوع ما لتصل في الأخير إلى أنني أستحق أن أكون صاحب المنزل، أو نصفه على الأقل. يا إلهي! كم هي غريبة هذه الأحداث. ماذا لو خرجت الآن لأرويها لإخوان الشارع؟ لن يصدقني أحد بالتأكيد رغم أنهم رأوا كل أهوال الدنيا. لكن أن تجتمع كل هذه المصادفات لتبتسم لي الحياة أخيرا فهو فعلا أمر محيّر وغريب. جوّ شهر أبريل مخادع. البرودة تتسرب إلى أوصالي فأدخل إلى غرفتي مجددا وأجلس جوار حاسوبي المحمول الذي اشتريته بأول راتب قبضته من شروق. كانت تلك نصيحتها، وأنا كنت من المُلبّين. أراقب جديد مزاد "آلفي" فأجد أن هناك شخصا جديدا زايد ب 230 ألف دولار. هذا جيد، لكنني أتمزق من الداخل غضبا وحسرة، ثم أعود فأهدأ متسائلا عن أي مسار كانت ستتخذه الأحداث لو كنت بعته له بتلك الملايين المعدودة التي طلبت. كنت سأصرفها حتى آخر سنتيم وأعود لحياة التشرد كأن شيئا لم يكن. لكن، هل الوضع الآن أفضل؟ والله لا أعلم. لكن تكفيني شروق لحدّ الآن كربح أنا مستعد لدفع نصف عمري من أجله فعلا. الغريب أننا لحدّ الآن لم نتبادل أنا وشروق أي كلمة إعجاب أو حب، باستثناء ما تقوله هي عن شخصي من حين لآخر، والتي تعرف هي جيدا كيف تقوله بحيث لا أنجرف معها وراء مشاعري. تجيد بشدة لعبة التحفظ. كأنها تخشى عليّ من جرعة حبّ قوية قد تكون قاتلة، فتمنحني إياها قطرة قطرة. عرضُ الزواج لا يمكن أن يكون إلا من شخص قد أحبك. لكن شروق لا تقول هذا ولا تفصح عنه، وتأتيني بالسبب تلو الآخر في كل مرّة. هل يكون كلّ هذا في نظرها مجرّد ردّ دين لا أكثر. هل أرضى أنا بهذا؟ لحدّ الآن أنا نفسي عاجز عن تحديد مشاعري بالضبط لكنني أقرّ أنني لو فقدت شروق الآن، لا قدّر الله، فسأجنّ. حياتي كانت فارغة فجاءت هيَ وملأتها فجأة. والحقيقة التي أعترف بها أنني لست مستعدا لأعود فريدا وحيدا كما كنت. لديّ الآن شخص أعيش من أجله وأحميه. وهي مشاعر أختبرها لأول مرة ووقعها على نفسي لا يكاد يضاهى. شروق تستعد لدفع طلب تأشيرة إنجلترا. لديها صديقة هناك، وقد أرسلت لنا دعوة باسمينا لحضور نشاط ما له علاقة بالإعلام والإنترنت. شروق هي مديرة شركة "طنجيس" للمعلوميات والنشر، وأنا أحد موظفيها. هكذا جهزت كل شيء لنقوم بخطتنا. سأسافر أولا، وستقيم هي حفل عرسها دون حضوري متحججة بأنني سافرت لأمر طارئ على أساس أنها ستلتحق بي لنقضي شهر العسل هناك. شهر العسل الذي لن يكون سوى رحلة مصيرية من أجل العودة بالكتاب أو نهلك دونه. أتصفح أحد المواقع المحلية لأعرف جديد البرلماني عبد القادر رشيد وابنته، فأجد أن الموضوع بدأ يُنسى تدريجيا، ولو أن مسألة استثماره سياسيا لا زالت تطفو على السطح من حين لآخر حيث يتهم عبد القادر رشيد الحزب المنافس بالقيام بعملية الخطف ولو أنه يعلم في الغالب علم اليقين أن الأمر ليس كذلك، لكنه لا يتردد في المتاجرة بمأساة ابنته. إنه وغد زنيم دنيء.. وسيبقى كذلك. أحد الأخبار أدهشني، ويتعلق باستعادة لوحة كانت قد سرقت من المتحف الأمريكي تحمل اسم الموناليزا المغربية، أصبح الطنجاويون يلقون عليها اسم "زهرليزا"، كانت قد سرقتها عصابة دولية على ما يبدو. من استعادها شابّ طنجاوي عادي يغار – مثلي وشروق – على هذه المدينة الأمّ. حكاية سرقتها واستعادتها غريبة جدا ويندر أن تحدث في مدينة طنجة بتلك التفاصيل المثيرة. الشاب الذي استعادها اسمه خالد ويبدو أنه يقيم بحومة "اسبانيول".. إلى أي مدى يمكن أن يكون مفيدا لنا هذا الشخص؟ سأسأل شروق وأرى ما الذي يمكن أن نفعله! رواية "المتشرد" 15 .. عماد يكتشف سرّ اهتمام شروق به أخيراً