بمجرد ما وضعنا في فريق الأصالة والمعاصرة بأمانة المحكمة الدستورية، مذكرة الطعن في مسطرة التصويت على القانون رقم 20.26 المتعلق بتجاوز سقف التمويلات الخارجية، حتى انطلقت من جديد الأصوات النشاز، معتبرة لجوءنا للقضاء الدستوري، مجرد طلقة رصاص فارغة، أو هي نوع من "الرياء" والنجومية المزعومة، بل من الأصوات من بدأ من الآن يحصي خسائرنا السياسية في حالة ما "خسرنا" هذه الدعوى "القضائية". في الحقيقة لا نستغرب من هذه الأصوات "القزمية"، لأنها تبني معيار تقييمها للعملية على أسس ضيقة، وتعتبر القضايا والطعون المطروحة أمام القضاء الدستوري باعتباره أعلى هيئة في جهاز القضاء، مثلها مثل الرابح والخاسر في دعاوى مخالفات مدونة السير أو قضايا الكاري والمكتري، ذلك أن نتائج القضاء الدستوري وقرارات المحكمة الدستورية في جميع الدول الديمقراطية لا تقاس بمقياس ربح الدعوى أو خسارتها، بل الأمر يتعلق في جميع الأحوال -ربحنا الدعوى أو خسرناها- بتراكم تفسيرات المحكمة للشق الغامض في مضمون الدستور، بتعزيز للممارسات الديمقراطية الفضلى، بتكريس اكتشاف روح وفلسفة الدستور أكثر من نصوصه الجامدة. إن لجوء المعارضة إلى المحكمة الدستورية داخل مختلف الديمقراطيات، يعتبر أمرا عاديا وطبيعيا جدا، بل هو ضروري في حياة المجتمعات الديمقراطية بغض النظر عن نتائج أحكام القرارات كانت لصالح هذا الطرف أو ذاك، فمضمون قراراته في الدول الديمقراطية تصبح ملكا للنخب، للأحزاب كلها، للمؤسسات، للوطن ككل. لذلك نستغرب أننا في المغرب لازلنا غير مهتمين باستصدار اجتهادات المحكمة الدستورية في كل القضايا الدستورية العالقة والشائكة والخلافين بين الفرقاء السياسيين، سواء كانت ممارسات تشريعية أو إجراءات مرتبطة بممارساتنا الديمقراطية اليومية، بل لازلنا "مع كامل الأسف" نوظف القضاء الدستوري أكثر في الصراعات الشخصية الضيقة بمناسبة الانتخابات، حيث نلجأ إليه بكثرة لتصريف حروبنا السياسوية الضيقة للإطاحة بخصومنا البرلمانيين والطعن في فوزهم، والحال أن عمل المحكمة الدستورية لا يقف عند حدود الطعون الانتخابية، بمعنى آخر لا يجوز لسياسيينا الذين يحول البعض منهم حزبه لدكان سياسي يفتتح بمناسبة الانتخابات فقط، أن يجعلوا من المحكمة الدستورية نفسها "دكانا قضائيا" يفتتح في الانتخابات وينتهي دوره بعدها. إن دستور بلادنا كما سائر دساتير الدول الديمقراطية، أقر بحق جلالة الملك والحكومة و مجلس النواب و مجلس المستشارين اللجوء إلى المحكمة الدستورية للطعن في جميع القوانين، بعدما جعل إحالة القوانين التنظيمية والنظامين الداخليين للبرلمان إجبارية على قضاتها، وهي إمكانيات لم يضعها المشرع الدستوري اعتباطا لتزيين ديكور المشهد الدستوري، بل لتفعيلها وجعلها مطية لتراكم ثقافتنا الدستورية، وتطوير ممارساتنا الديمقراطية، لأن الرابح في اللجوء للمحكمة الدستورية هو الوطن وليس أطراف الدعوى، ولكم في واقعة تنصيب حكومة بنكيران الثانية عبرة يا أولي الألباب، حيث كانت الساحة السياسية والبرلمانية والحزبية والفكرية تغلي وتعيش نقاشا واختلافا حادا حين شكل بنكيران حكومته الثانية، هذه الأخيرة عرفت خروج حزب إلى المعارضة "الاستقلال"، ودخول حزب من المعارضة إلى الأغلبية "الأحرار"، أي أن حزبا وضع البرنامج الحكومي وأصبح يعارضه، وآخر صوت ضد البرنامج الحكومي ودخل ليطبقه، مما رفعت معه الكثير من الأصوات السياسية والفقهية قضية "ضرورة حصول حكومة بنكيران الثانية على تنصيب برلماني جديد"، فكانت مناسبة طعن المعارضة في القانون المالي فرصة للمحكمة الدستورية، التي فسرت هذه النازلة، "واعتبرت أن الحكومة تبقى قائمة مادام رئيسها لم يغير وليست في حاجة إلى تنصيب برلماني جديد"، وبالتالي فالمعارضة خسرت دعوة الطعن، بينما الوطن فقد ربح تأصيلا دستوريا أغنانا عن احتقان وبلوكاج جديدين في تلك اللحظة و في المستقبل. ولسمو القضاء الدستوري، نجد أن المشرع قد أعطى لقرارات المحكمة الدستورية ولمكانتها أهمية خاصة، حيث جعلها ملزمة لجميع المؤسسات، وجعلها غير قابلة للطعن أمام أي جهاز قضائي، لأنها مفسرة للجانب الغامض في نص الدستور، بل أحيانا تساعد على تفسير بعض النتائج العكسية لهدف وروح الدستور. لذلك يعتبر اللجوء إلى المحكمة الدستورية في الدول الديمقراطية أمرا عاديا، بل سلوكا سياسيا راقيا، و علينا نحن في المغرب أن نتملك هذه الثقافة الدستورية، و يجب علينا كأحزاب ونخب تفعيل مختلف الآليات الدستورية التي يمنحنا الدستور، ونقبل بكثافة على المحكمة الدستورية، لتراكم بلادنا بجيلها الحالي والقادم، رصيدا فكريا هاما حول الدستور، ورصيدا غنيا من ثقافة احترام روح الدستور.