في هذا المُطلق البهيج كان يمتدّ حتّى النّهايات البعيدة.. ماضياً إلى المدينة ليلا ونهاراً بقامته المُشتعلة بخزائن الماء والشلاّلات..بأسطورة جغرافية تفتح طرقاً على الكواكب والجهات وبنخوة الأجداد المرسومة على جبهتِهِ. هو الجبل الذي يطلّ على المدينة ويحرسها بحكمته، بَلْ كُلّ شبر داخل الأسوار وإن تغيّرت امتدادات النظر إليه من شرفة أو مسافة أو مكان يظلّ شامخ الطّيران يتحدّى الأزل..تجمعه بالكلّ طبائع الصّمود والأنفة والسموّ، وكأنّه يعطي حياتنا قيمة ومعنى.. فعبره نستقبل أولى إشراقات الصّباح عندما يمدّ جسراً من الشّمس بيننا، ويزيح العواصف عن المدينة وينتظر مساءً هادئاً ليرسل قمراً ينبض بالبياض، فتصير الأشجار رقراقة تحت متاهات الضّوء.. وفوق خطوط الشّبابيك وفي مرايا الماء وفوق جدران الحياة. عبر ملحمة الوجود تأسّست المدينة بين جبلين: "تيسوكة " و"القلعة ". وكان الجبل دائماً في مواجهة الصّمت القريب، يفتح علينا راياته، وينصت إلى نايات الرّعاة، حتى إنّه آلف وجوهنا بتقاسيمها الكبيرة والصغيرة..وكان دائماً في أعماقه الأكثر قرباً منّا ينصهر في نسيج المجتمع، إذ منذ أن كان وهو يمْقُتُ منطق التّعالي والاختراق..ورغم جبروته، ظلّ يبعث في جسد المسافات وهجاً لطيفاً. في كلّ خطوة كان الجبل يفتح أجنحته بالفرح، ويقول هاهنا طريقكم الرّحبة..هاهنا طين السّلالات ونزهة الأيّام.. فتمضي الوجوه تباعاً لتستمتع بالأجواء الفسيحة، مارّة بين أيادٍ تلامس كرات الثّلج على مرتفعات "الشْويحاتْ"، وأخرى تضع إبريق شاي على جمر الأعواد.. وثالثة تركض برشاقة لتمارس طقس الرياضة أو بين هاوِ قنصٍ يطارد أرنباً مذعوراً أو من يحتمي بالسّكينة والتأمّل، أو يعدّ العدّة للامتحانات..أو من يُشعل عدسات الكاميرا على منابع الجمال أو بين الأحبة الذين يختلسون قُبلتهم الأولى الهاربة بالمشاعر. في زاوية من أرواحنا، كان الجبل يمدّ جذوره فينا واحداً واحداً..وأحياناً يضع على أكتافنا النّجوم؛ ففي هامات صخره تتحاور الأزمنة، وفي غيومه تطْلع الظّلال بقبّعاتها لتسلّم علينا ولتذكّرنا بحروف الأرض التي لا تقبل التخطّي على ماضيها..وبين يديه كانت المدينة تُشعل أضواءها، فتشعّ متوهّجة وتصير أكثر بهاءً وحريّة وهي تلج اللّيل بالموّال..