اقترح الشاعر المغربي سعد سرحان، في مقالة ماتعة ذات دلالات خص بها هسبريس، على الدولة أن تسن "ضريبة" عن الثلج المتراكم في جبال المملكة، "يؤدّيها كل من يستفيد من خيراته المادية والرمزية، لفائدة كل من يكتوي بصقيعه جبرًا للضرّر" وفق تعبيره. وقال سرحان مُدافعا عن مغاربة المغرب العميق، إن هذه الضريبة يمكن أن تُترجم إلى "طرقات، وإنارة، ومدارس، ومستوصفات، ومشاريع تحفظ لسكان الجبال إباءهم"، قبل أن يعود بذاكرته إلى الماضي حين كانت علب السجائر بالمغرب تحمل "تنبر فلسطين"، وهو ضريبة صغيرة يؤدّيها المدخّن مساندة لفلسطين ضد الكيان الإسرائيلي. وفي ما يلي نص مقال الشاعر سعد سرحان: ضريبة الثلج يحلو للكثير من المغاربة أن يفاخروا برصيدهم من البحر الذي يفوق الثلاثة آلاف كيلومتر، حتى وأجود أسماكه تنتهي إلى موائد الآخرين، وأعذب رماله سيَّجتها الإقامات الفاخرة والفنادق والمنتجعات السياحية، فإذا هي مقصورة على ترف هؤلاء ونمش أولئك. حسبُهم أنه يهدر غير بعيد عن أرواحهم، وحسب بعضهم أنه بساط الروح التي تُيمِّم أحلامها شَمالا. يحلو للكثير من المغاربة أن يُزايدوا على العالم بأن بلدهم هو الأجمل، مع أن معظمهم لم يروا منه أكثر مما رأى سائحٌ قضى به زهاء أسبوع. ويحلو لهم، ليس أخيرًا، أن يشِيدوا بطبيعة البلد الموسوعية التي جعلت منه متحفا جغرافيا فريدا، حيث الرفوف العليا محجوزة باسم الجبال. بدون سلاسله الجبلية كان المغرب سيبدو، من الأرض ومن السماء، أقلَّ جمالا. فما تضْفيه عليه وما تضيفه إليه أكبر من أن تصوِّره كاميرا أو تحيط به مخيِّلة. فلو طرحنا الجبال من المغرب لصار أقلَّ عشبًا وأقل ريشًا، أقل حجرًا وأقل شجرًا، أقل ماء وأقل هواءً، أقل مساحة وأقل حياة طبعًا. للجبال، إذن، دَيْن كبير على غيرها من التضاريس. وعلى الذين ينعمون في فضله أن يُسَدِّدوا بعض فوائده إلى سكّانها. صحيحٌ أن الدَّيْن ذاك عصيٌّ على التقدير. لكن، يمكن مع ذلك اختصاره في جبال الفضة التي تكونها الجبال شتاء، فإذا ذاب الثلج وصار سائلا في المسابح والعبوات البلاستيكية وغيرها، انصهرت فضته وباتت سيولة دافئة في أرصدة قلة من المحظوظين: في حساب السهل الكثير من مال الوعر. لا يتمُّ اعتصار الماء من لا شيء، فلولا المساعي السخينة للشمس، لظلَّ هناك في أعالي الجبال متشبِّثا بمواقفه الناصعة، ولما انحدر مخفورًا بالخرير، فإذا منه الوديان والعيون والفُرْشات المائية، فالآبار والمسابح... وإذا هو الرّاعي الرسمي للخضرة حيثما وُجِدت من أصص الشرفة حتى ملاعب الغولف. فالماء المعدني الطبيعي، قبل أن يصير إلى عبوة يطفئ زلالُها عطشَ تلكم السيدة على سبيل الأيروبيك، كان ثلجا قارسا، كلَّ فجر تقطع أميالا منه سيدة أخرى لتعود بعد ساعات حاملة على ظهرها قُلامة دغل تهش بها القرّ عن بيتها الأعزل إلا من الكرامة. والجبال التي تباع كبطاقات بريدية وتزيّن المطويات السياحية ما كان لها أن تفي بالغرض لولا تيجانها الفضية وما تغري به من تسلق وتزلج. والمسابح التي... ما كان لها أن تكون المسابح التي... لولا الثلج الذي... لهذا الغيض من فيض يَجِلُّ عن التقدير، نقترح إقرار ضريبة على الثلج يؤدّيها كل من يستفيد من خيراته المادية والرمزية لفائدة كل من يكتوي بصقيعه جبرًا للضرّر. وهي الضريبة التي ستصعد إلى الجبال على شكل طرقات وإنارة ومدارس ومستوصفات ومشاريع تحفظ لسكان الجبال إباءهم، فالثلج يجب أن يكون مُدِرًّا لماء الوجه أيضا. أمّا من سيعبس في وجه هذا الاقتراح، فنذكّره بأن أسلافنا عرفوا قديما خَراجَ الغيوم مع أنها سابحة في السماء، فكيف لا نعرف نحن ضريبة الثلج الذي يكلل الجبال الراسخة في الأرض؟ وفي الماضي القريب فقط، كانت علب السجائر في المغرب تحمل "تنبر فلسطين"، وهو ضريبة صغيرة يؤدّيها المدخّن مساهمة منه في إطلاق النار على عدو بعيد مرة قبل أن يطلق النار على نفسه عشرين جمرة، فإذا الخراب والحصار هناك توأما السرطان والرّبو هنا. فَلِمَ، إذن، لا تحمل عبوات المياه المعدنية "تنبر الجبال"؟ ولم لا تدفع ضريبةَ الثلج المسابحُ والحمّامات والفنادق والمنتجعات السياحية وملاعب الغولف وغيرها مما يرفل في نعمة الماء؟ هكذا سنصعد إلى الجبل بمستحقات الجبل، وليس لاستعراض فائض الشفقة أمام الكاميرا. لقد تأخّرت الدولة كثيرًا في الصعود إلى الجبل، أقصد الصعود الفعلي لا الصعود المجازي الذي غالبًا ما كان مُدَجَّجًا ببنادق من فِلِّين، فيما البنادق الحقيقية هي تلك التي حمل سكان الجبال دفاعًا عن غيرها من التضاريس. فجبالنا محميات حقيقية بأعشابها وأطيارها، بأحجارها وأشجارها، بكهوفها وعظام الأجداد فيها، كما بسكانها ولهجاتهم، بمواويلهم ورقصاتهم، بحِلِيِّهم ومنسوجاتهم... أمّا بخصوص الماء، فما تمخّض لنا جبلٌ إلا ولد نهرًا. لقد تأخّرت الدولة كثيرًا، تمامًا كما حصل لها مع البادية التي لم تكن ترى فيها سوى أصوات انتخابية وهتافات في المناسبات الرسمية، وكأنها مجرّد حناجر تصدع بما تؤمر. حتى إذا جاء الجفاف، عقب الجفاف، فوجئت بأن للبادية بلعومًا أيضًا... بلعومًا بحجم نفقٍ ضخّ في الحواضر، خلال عقود فقط، نصف سكان البوادي. فلو كانت الدولة قد خرجت إلى البادية بالمدرسة والكهرباء والإسفلت والمستوصف... لو كانت قد خرجت إلى البادية ببعض الحضارة فقط، لما يمّمت هذه شطر المدينة بكل البداوة. فها هي البوادي قد دخلت المدن بسواطيرها ودوابها وكلابها وقاموسها وطريقة عيشها... فوسمت المدن بميسمها، حتى أن ما كان يعرف سابقًا بالبولفار أصبح الآن عبارة عن سوق أسبوعي يقام يوميًّا وتحت أضواء النيون. فإذا الكثير من المدن، بندوب في الوجوه والشوارع، تحتاج أن تقسم بالثلاثة قبل أن نصدّق، على مضض، أنها فعلا كذلك. إذا كان التنوّع الجغرافي نعمة على المغرب، فلا يجب أن يكون نقمة على بعضه، فلا أحد يضمن ألا تزحف هذه النقمة على تلك النعمة زحف البادية على المدينة. لتدبير الحياة المعاصرة بتعقيداتها التي لا تحصى، ظهرت علوم جديدة وتخصصات غريبة، إذا لم يكن "تدبير الجغرافيا" واحدًا منها، فإننا نقترح إحداثه. ليس فقط لأنه اسم يستحق فعلا تخصصا يحمله، وإنما، أيضًا، إقرارًا للعدالة الجغرافية التي لا عدالة اجتماعية بدونها. ولكي نربط قمة الجبل حيث فضة الثلج بقاع البحر حيث المحار، نشير إلى أن بريق اللؤلؤ لا يجب أن يحجب عنّا حالة الغوّاص: فاللؤلؤ حول الأعناقْ جاء به الغواص من الأعماقْ.