يقول النّفري في موقف حجاب الرؤية من أعماله الصوفية (ص: 106): "من عرف الحجاب أشرف على الكشف..."، وهي جملة عميقة الدلالات سكنت خزائن العديد من الأسماء الأدبية التي كانت أكثر براعة وخبرة وتأثيراً على مسارات أدبنا العربي واقتربت من حكمة الكشف والرّؤيا فكان ما كان. وهذا أيضاُ شأن الكبير الشاعر الفلسطيني محمود درويش (1941/2008) الذي مسّه هذا الصّدق الباهر، فصارت الكلمات بين حدائقه الكثيفة كشفاً لا ينتهي، ناثرة شلاّلات عطرها في تعددية العالم، وغارسة في كلّ النّفوس حاسّة الاستثناء والبحث عن المستحيل في خلايا موجة، وفي حديث نجمة، وفي قامة جبل منيف وفي شرفات بوح، وفي ذكريات قصيّة وقريبة، وفي بلاغة تجمع رحيق الموضوع المصفّى في الزّمان والمكان، المقرون بشرط التّنوع والعمق وبمدى قيمته الشديدة أولا وأخيراً. في روح الشاّعر بنفسجة، استطاعت الإجابة عن أسئلتنا وانتظاراتنا وما يستعصي عن السّؤال. بصوته علمنا مذاقات الأرض/الأم بزيتونها وقمحها وحقولها وكيف نمشي بين دفئها وأسرارها دون أن نبرح ترابها السّاكن فينا، وكيف نحوّلها إلى جغرافيا من الحبّ والحوار والإبداع. هو الطّفل الذي صادق النّهر والأقمار والعشب والحجر وأبجديات الطّبيعة، وأنصت إلى مواويل الفلاّحين في قرية "البروة"، ناسجاً علاقة عضوية معهم، وسافر في رحلته المديدة والخالدة ليغوص في جوهر الأشياء والإنسان وصيرورة الوجودي والكوني، بعدما أضحى ظاهرة أسلوبية في تفجير اللّغة، وصوتاً ملحمياً بالغ الخصوبة، وكِتاباً أدبياً مفتوحاً كلّه رهافة ورهبة، يتجدد في كل قراءة، متحدّثاً عن انتمائنا وتاريخنا وثقافتنا وجرحنا ومجهولنا وانتظاراتنا في هذا الكوكب السّعيد/الحزين. محمود درويش المعلِّم الأسطوري الماهر الذي كان مثالاه الرّوحيان السيّاب ولوركا، يُجالسنا ونحن في الميادين أو في الجامعات أو في الميترو والمكتبات والبيوتات والطائرات والغابات وفي همسات العزلة كذلك. يوجّهنا صوب الضّوء ويمشي مبتسماً ولا يلتفت، تاركاً النّهار يحتسي قهوته، وتاركاً أمكنته فينا، تعلّمنا كيف نرتاد مساحات أوسع من أجسادنا وكيف ننظر إلى المرآة فنرى النجوم على هيأة أغنية، ونرى اللّيل بحصان أبيض، ونرى الفصول بلون السّماء، فننهض صباحاً على أمل رحبٍ يلمّ شتات الأيّام وعلى استعداد لمواجهة الحياة والانتصار على الإحباط. صباح الخير.. هكذا يقول أصدقاء الشاعر الفلسطينيون الأفذاذ الذين جاورهم في الأعماق وشكّل برفقتهم إيقاعاً ثقافياً بليغاً، متعدّداً ولافتاً، امتدت ظلاله شرقاً وغرباً وهم على عتبات الأفق: غسّان كنفاني، جبرا إبراهيم جبرا، إدوارد سعيد، سميح القاسم، مريد البرغوثي، سلمى الخضراء الجيوسي، محمد القيسي، فدوى طوقان، عبد الكريم الكرمي، معين بسيسو، ناجي العلي، عبد الباري عطوان، غسّان زقطان ... ثم يواصلون حديثهم: نريد شربة ماء من نهرك العظيم يا محمود .. أنت المحروس بالشّفافية والترانيم الشّاسعة والاحتمالات.. آتنا بغَيْثِ كأسك أيّها البارع، فنحن ظمأى.. آتنا بحبر القلب الذي هذّبته براعة التجربة وجماليات المعمار وغذته فتنة الانزياحات وجلال الخيال وجموحه... فلسطين التي أنجبت سيرة الشاعر، كانت قضيته الأولى، فكان النص في تواصله وموقفه ووفائه وفعاليته القصوى، ينير الطّريق إلى ما لانهاية، شاغلا الوجدان الإنساني، هو صاحب قضيتنا جميعاً التي ترافع عنها شعرياً، ضد المصادرة وبطش الاحتلال وحرائق السياسة ومكائدها.. وجابه الصّعب بمقياس اللغة التي سكنته وتوحّدت به، فصار جسداً من اللّغة، بل هو اللّغة التي تأخذ بنبرة التحوّل والقوّة والتأثير وأسس الكلام.. وبهذا المعنى وغيره زرع بيننا شطآناً من اللآلئ: أوراق الزّيتون، أحد عشر كوكبا، لا تعتذر عمّا فعلت، لماذا تركت الحصان وحيداً، جدارية، كزهر اللّوز أو أبعد، أثر الفراشة، في حضرة الغياب، سرير الغريبة، وبعدهم وقبلهم الكثير من الياسمين... فقد كان الشّاعر ولا يزال المسعى لكل الأجيال والحساسيات ولكل قادم لعناق المسافات الطويلة. الرّائي محمود درويش، صاحِب مجلة "الكرمل" التي راهنت وانصهرت في وجدان الثقافة العالمية ومارست أثرها على القارئ، معرفة شعرية عالية وبهاء روحيّا أدرك جوهر الوجود، وجوهر المعاني الكبرى، مدادنا المنثور هنا وهناك بالقيم وبالفطنة والنّباهة والبطولات الإبداعية؛ حيث يصبح النّشيد حياة وجاذبيّة ينصهر في الشّاعر ويمشي معه نحو الأقاصي. وها هو يبوح من ديوانه: "كزهر اللوز أو أبعد" (ص 153) فيقول: "أنا هوَ، يمشي أمامي وأتبعُهُ / لا أقول له: هاهنا، هاهنا / كان شيء بسيط لنا / حجرٌ أخضرٌ. شجرٌ. شارعٌ / قمرٌ يافعٌ. واقعٌ لم يعد واقعاً/ هو يمشي أمامي / وأمشي على ظلِّهِ تابعاً.../ كلَّما أسرعَ ارتفعَ الظلُّ فوق التلال/ وغطّى صنوْبرةً في الجنوب / وصفصافةً في الشمال/ ألم نفترق؟ قلتُ، قال: بلى / لكَ مني رجوعُ الخيال إلى الواقعيّ/ ولي منك تفّاحة الجاذبيّة ..."