وُجد التخلف باسم الدين في كل الأمكنة والأزمنة؛ ولم يسلم منه أي بلد أو مذهب، يلبس تارة لباس المسيحية وأخرى لباس اليهودية أو البوذية أو الاسلام أو غيرها من الأديان سواء كانت سماوية أو أرضية؛ فبينما يحاول العالم تمرير هذه الأزمة بأقل الخسائر في الأرواح والاقتصاد، يجهد البعض الآخر في توريط العالم أكثر في الوباء بسبب قراءات دينية متخلفة: هذا مذهب يهودي يرفض إغلاق بِيَعِه، وتلك كنيسة ترفع دعوى قضائية ضد الدولة بسبب إغلاقها، وأولئك شيعة يلعقون الأضرحة رفضا ويرفضون إغلاق الحسينيات، أما مشايخ باكستان فقد استأنسوا بقوتهم وأتباعهم، وأجبروا الحكومة على ترك المساجد مفتوحة رغم أن البلد يسجل آلاف الإصابات بالوباء. من خلال استقراء الكتابات التاريخية التي أرّخت للأوبئة، تمّ تسجيل أن العديد من الأوبئة ما كانت لتحصد ملايين الأرواح إلا بسبب تخلف رجال الدين ورفضهم للعلم ومقولاته وتوجيهاته. لقد فعلت الكنائس ذلك ومنعت الناس من البحث في الدواء لدى الأطباء، ووجهتهم إلى الكنائس لرفع الدعاء بدل نصحهم بالبقاء في بيوتهم، فاستفحل الوباء وتعاظم ورفضت الكنائس والبيع اليهودية حتى اجتهادات رجال الدين من داخلها الذين تعاملوا مع الوباء بطريقة مغايرة. ونفس الشيء حدث في الدائرة الإسلامية، حيث ساد الجهل لدى كثير من الشعوب، وتسبب تخلف الكثير من الفقهاء في قتل آلاف الناس. يروي ابن بطوطة عن الطاعون الأسود الذي عرفته دمشق حوالي 1342م، كيف توحّد الجميع من أجل مواجهة الوباء، قائلا: "اشترك كل أهل دمشق في الصيام لمدة ثلاثة أيام، ثم اجتمع الأمراء والشرفاء والقضاة والفقهاء وسائر الطبقات في الجامع حتى غصّ بهم، وباتوا ليلة الجمعة بين مُصلّ وذاكر وداعٍ، ثم صلّوا الصبح وخرجوا جميعا على أقدامهم وبأيديهم المصاحف والأمراء يتقدمونهم حفاة، وخرج جميع أهل البلد ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا، وخرج اليهود بتوراتهم، والنصارى بإنجيلهم....وجميعهم باكون متضرعون إلى الله بكتبه وأنبيائه". هكذا واجه الناس الوباء الذي ينبغي أن يتفرق الناس بسببه بدل أن يجتمعوا. ويؤكد بعض المؤرخين هذه الرواية، إذا قالوا في معناه أن الطاعون قد انتشر في دمشق سنة 749 هجرية ( مثل ما كتبه شمس الدين المنبجي)، وفي 833 ه بالقاهرة (مثل ما كتبه أبو حجر العسقلاني)، فخرج الناس للصحراء للصلاة واجتمعوا للدعاء، فكان أن عَظُم الطاعون وكَثُر، وكان قبل دعائهم أخفّ". نعم لقد ساد في كل الحضارات ولدى معتنقي الديانات، رأي منافٍ للمنطق العلمي، وراحوا يتوسلون بالخرافة والجهل في سبيل مواجهة وباء ينبغي التصدي له بالعلم والعقل، وقد تعرض علماء دين وأطباء للتنكيل والقتل والتشهير والتكفير بسبب رفضهم للمنطق السائد، ودعوتهم لإعمال العقل. خلدت الكتب التاريخية العديد من الأسماء وأكيد أنها أغفلت الكثير، نموذج ذلك ما حدث مع لسان الدين ابن الخطيب الذي جمع بين الطب والفقه وبرع في العديد من المجالات الأخرى، لكنه للأسف تعرض لهجمة شنيعة من طرف علماء الجهل والخرافة، ومنهم من تتلمذوا في مدرسته، لكنهم تعالموا على أستاذهم (وترجح بعض الروايات أنهم هم من قتلوه وأحرقوه). لقد عانى الرجل كثيرا مع الجهل، وشتت جهده بين البحث عن سبل معالجة الوباء وإبعاد الناس عنه، وبين الرد على منكري العدوى بناء على نصوص دينية، وقد خلد وثيقة نادرة توضح هذا المجهود القيّم الذي قام به في سبيل التوعية بخطورة الجائحة، عنونها بعنوان معبر: "مَقْنعة السائل عن المرض الهائل"، والمقصود هنا الوباء الذي ضرب الأندلس حولي عام 749 هجرية، الذي عصف بآلاف الناس. لكن وبدل أن يواجهونه بالعلم وبالاعتزال مخافة العدوى، أنكر فريق منهم العدوى ورفض ما نسميه اليوم ب"الحجر الصحي"، مما دفعه إلى بسط الحجج العلمية والدينية للرد على هؤلاء، نقرأ له: "فإن قيل: وكيف نسلم دعوى العدوى وقد ورد الشرع بنفي ذلك؟ قلنا: وقد ثبت وجود العدوى بالتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواترة، وهذه مواد البرهان" ويضيف في موضع آخر: "وسلط الله عليهم من بعض المفتين من اعترضهم بالفتيى اعتراض الأزارقة من الخواج للناس بالسيوف"، ولأن الرجل قد جمع بين الطب والفقه وبرع فيهما معا إلى جانب السياسة (يلقبونه بذي الوزارتين)، فإنه لم يدخر أي وسيلة إقناع تساعده على توجيه الناس إلى اعتزال الناس، فتارة يأتي بقصة الرجل الذي بنى باب داره على أهله في مدينة سلا، حتى هلك الناس جميعا ولم تسلم إلا عائلته، وتارة يروي لهم من كتب المؤرخين، وعلى رأسهم ابن بطوطة، كيف أن أهل الجبال والمساجين هم الأقل تضررا من الأوبئة، وتارة يعود بهم إلى النقاش الفقهي، نقرأ له: "ومن الأصول التي لا تُجهَل أن الدليل السمعي إذا عارضه الحسّ والمشاهدة لزمه تأويله، بما ذهب إليه طائفة ممن أثبت القول بالعدوى"، قبل أن يختم بقوله: "والكلام في القول بالعدوى أو بعدمها شرعا، ليس من وظائف هذا الفن، وإنما جرى مجرى الجمل المعترضة والمُثل، وله تحقيق في محله". الواضح أن لسان الدين ابن الخطيب لم يكن في "مقنعة السائل" يرد على القساوسة والرهبان، وإنما على رجال دين أنكروا العلم ورفضوا القول بالعدوى، وهذا دليل ملموس على أن الجهل والتخلف وُجد ويوجد في كل الحضارات، كما يوجد من تصدى وتصدى له في كل الحضارات. ما حدث في باكستان وفي غيرها، سواء لدى المسلمين أو المسيحيين أو اليهود أو غيرهم ممن يرفضون إعمال العقل في التصدي للأوبئة، دليل إضافي على أن البشرية ستعود القهقري إذا ما احتضنها التخلف المتسربل بالدين،. صحيح أن جل المجتمعات تقبلت أمر إغلاق دور العبادة، وأن الكثير من فقهائها ورجال دينها قد فتشوا في تراثهم ووجدوا ما يعضض موقف الإغلاق، لكن الأكيد أن أصوات الرفض إذا حازت القوة والأتباع فإن رأيها هو الذي يسود، وما حدث في باكستان لهو خير دليل، بما أن مشايخ الدين هناك لديهم من القوة والأتباع ما جعلوا الدولة ترضخ لهم! *أستاذ الفكر السياسي [email protected]