تكشف الإسطوغرافيا المغربية، منذ العصر الوسيط، عن حضور لافتٍ للأثر الدبلوماسي في بناء الدولة المغربية، وامتداد نفوذها خارجيا، وتشعب علاقاتها بمحيطيْها الإقليمي والدولي. كما تكشف الذخيرة الوثائقية المغربية عن صور مختلفة للفعل الدبلوماسي، وفي طليعتها العمل السياسي والنشاط الاقتصادي، مثلما تؤكد الوثائق المذكورة، حجم المكاسب، المادية والمعنوية، التي تحققت لفائدة المغرب جرّاء ديناميةِ آلته الدبلوماسية، وحرصه على تعزيز علاقاته مع غيره من الشعوب والكيانات السياسية. ويسجل المتتبِّعون، في السياق نفسه، أن العمل الدبلوماسي المغربي قد بدأ يسلك، خلال السنوات الأخيرة، مسالك جديدة، تعزز دبلوماسيته الرسمية التقليدية؛ بفضل الشروط والظروف الدولية المستجِدة، التي ظهرت في ظل تنافس الدول الكبرى على كسب شراكات وعلاقات جديدة، ومن هذه المسالك أو المسارات نذكر، مثلاً، الدبلوماسية الاقتصادية، والدبلوماسية البرلمانية، والدبلوماسية الدينية، والدبلوماسية الثقافية، والدبلوماسية الطبية، وغير ذلك مما يدخل في نطاق ما بات يُعرف ب"الدبلوماسية المُوازية". وهكذا، بادر المغرب، خلال العُشَرية الأخيرة، إلى عقد شراكات مع بلدان كثيرة في أوربا وآسيا وغيرهما، شعارُها وعمادُها تقاسم العائدات والمكاسب تطبيقا لفحوى الميثاق الذهبي رابح/ رابح. وقد تجسد ذلك، عمليا، في ما أطلقه المغرب، مؤخرا، من استثمارات بعدد من الدول الإفريقية الصديقة، غايتُه منها تدعيم صيغ التكتل الاجتماعي والاقتصادي، وتحسين سبل تدبير الثروات الطاقية بالقارة... هذا، ويلمس المتتبع أيضاً بروز مجالات أخرى للشراكة والتعاون الدبلوماسيين؛ كما هو الحال في مجال العمل البرلماني، الذي يعرف تعاونا واضحا بين المغرب وعدد من دول العالم، يتجلى في احتضانه لقاءات على مستوى عال تجمع بين الدول المعمور، وفي إسهامه الفاعل في بلورة جملة من الخطط والتدابير الإجرائية الرامية إلى تطوير العمل البرلماني، وإرساء ممارسة سياسية ديمقراطية حقيقية. وللدبلوماسية الروحية المغربية، في هذا الباب، أيضاً، وزنُها وثقلها خارجيا، ولاسيما في محيطه القارّي؛ فمن المعلوم أن الفضل في نشر الإسلام السُّني المعتدل، وتعاليم المذهب المالكي، يرجع إلى المغرب، منذ العصر الوسيط؛ وذلك من خلال سعي سلاطينه وحكامه إلى نشر ذلك في بلاد السودان ودول الساحل وإفريقيا جنوب الصحراء، والتشجيع على إنشاء الزوايا والطرق الصوفية المعتدلة، ذات الارتباط المتين بزوايا المغرب بفاس وغيرها؛ وعلى رأسها الزاوية التيجانية مثلا، التي كان لها - علاوة على دورها الديني الروحي - دور دبلوماسي مهمّ، أسهم في ترسيخ علاقات المغرب بعدد من دول الجوار. ولم يكن مجال الثقافة بمنأى عن مبادرات الفعل الدبلوماسي، بل صار بدوره موضع عناية لافتة من قبل فاعلين مؤسّسيين مختلفين، ولاسيما خلال العقدين الأخيرين؛ حيث بوشرت أنشطة ثقافية عديدة مسّت مرافق علمية وتعليمية وبحثية، وأقيمت مراكز دراسات استراتيجية حملت على عاتقها هَمّ التعاون والشراكة بين المغرب ودول مُحيطيْه الإقليمي والدولي؛ بفضل الدعم المولوي السامي لكل أشكال الدبلوماسية؛ التقليدية و الجديدة. وقد انتبهتِ الدبلوماسية المغربية إلى أهمية المدخل الثقافي، وإلى الدور الفاعل الذي يمكن أن تلعبه الثقافة، بمفهومها الشامل، في علاقات المغرب الثنائية والدولية؛ فبادرت إلى تشجيع هذه المقاربة، وإيلائها مزيدَ اهتمامٍ في برامج وزارة الشؤون الخارجية المغربية، وعيا منها بما يمكن أن تقدمه الدبلوماسية الثقافية من إضافة نوعية إلى العمل الدبلوماسي السياسي، ومن زخم إلى مصالح البلد وقضاياه الكبرى، وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية للمملكة، فضلا عن التعريف بثقافتها العريقة، وهويتها الغنية، التي تشكلت من روافد متعددة ومتنوعة (أمازيغية، وعربية إسلامية، وأندلسية، وصحراوية حسّانية، ويهودية، ومتوسطية...). وتظهر أهمية هذه الدبلوماسية أكثر في علاقة المغرب بمحيطه القاري؛ ذلك أن المغرب يتقاسم مع إفريقيا جزءا غير يسير من التاريخ والهموم والمصير والثقافة. وإفريقيا – كما جاء في أحد الخطابات الملكية– هي المستقبل؛ ولذلك نرى تهافت الدول الكبرى (الولاياتالمتحدةالأمريكية، دول الاتحاد الأوربي، الصين، تركيا...) اليوم على نسج علاقات اقتصادية وسياسية وثقافية مع بلدان القارة الإفريقية، التي تختزن ثروات طائلة، وموارد بشرية كبيرة، وإمكانات اقتصادية مهمة. إن مجال الصّحة، هو الآخر، ليس بمنأىً عن مبادرات الفعل الدبلوماسي. وفي هذا السياق، برهن المغرب عن حضوره الفعلي القوي في محيطه القاري، فأتى بمبادرات قمينةٍ بتعزيز هذا الحضور، والتي تنضاف طبعا إلى مبادرات سابقة؛ من قبيل المبادرة التي اقترحها العاهل المغربي الملك محمد السادس، مؤخراً، من أجل مكافحة وباء جائحة كورونا في إفريقيا، وهي "مبادرة واقعية وعَمَلية تسمح بتقاسم التجارب والممارسات الجيدة لمواجهة التأثيرات الصحية والاقتصادية والاجتماعية للجائحة"، وتروم إرساء إطار عملياتي بهدف مواكبة البلدان الإفريقية في مختلف مراحل تدبيرها ومواجهتها لتلك الجائحة. إن هذه المبادرة تمثل، أيضا، تجسيدا عمليا للشراكة والتعاون بين الدول الإفريقية، وتضامنها فيما بينها في السراء والضراء. إن المغرب، بكلّ ذلك، يعبّر عن بُعْد نظر وحِسّ مسؤولية، وعن انخراطه - كبلد إفريقي - في شؤون قارته وهمومها وانشغالاتها؛ إحساساً بالمصير المشترك، وهو ما تتطلبه الظرفية الراهنة بإلحاح. وما فتئ يطرح المبادرات تلو المبادرات إيماناً منه بأنه لا يمكن تجاوز هذه المحنة إلا عبر مداخل التضامن والتآزر والتعاون .