تعيش أغلب الدول الغربية القوية اقتصاديا وعسكريا داخليا أو على مستوى التكتلات العالمية على إيقاع نقاشات حول إشكالية الدخول في "المرحلة الثانية"، والتي تعني بداية الخروج من إجراءات الحجر الصحي والعودة التدريجية للحياة العادية لما قبل جائحة كورونا. وتكمن صعوبة "المرحلة الثانية" في تحقيق معادلة الأمن الصحي بالتوازي مع الأمن الاقتصادي، لذلك خلقت أغلب تلك الدول لجانا تقنية وعلمية عهدت لها باتخاذ هذا القرار التاريخي، ليكون بذلك قرار دخول المرحلة الثانية قرارا سياسيا بامتدادات اقتصادية واجتماعية، الأمر الذي جعل الفاعل السياسي والاقتصادي يستئنسان بآراء وتقارير علمية وطبية وتقنية تفاديا لتحمل المسؤولية التاريخية وتداعياتها بشكل منفرد. ورغم كل ما تتمتع به تلك الدول، خاصة الأوروبية، من قوة اقتصادية وبنية تحتية، إلا أن الحرب على فيروس كورونا هددت اقتصادها ورهنت مستقبلها. وقد التجأت الدول الأوروبية الأكثر تضررا من كورونا إلى الأسرة الأوروبية للبحث عن ميكانيزمات أوروبية للاستقرار أو ما يعرف بصندوق "إنقاذ الدول" من أجل ضمان سيولة مالية لتجنب انهيار الاقتصاد والأسواق المالية، في ظل صخب سياسي قوي يُهدد مستقبل الاتحاد الأوروبي ويجعله رهين مفاوضات تحكمها أجندات اقتصادية وانتخابية (مثل تلك المرتقبة في هولندا سنة 2021 مثلا). فإذا كانت هذه حالة الدول الأوروبية المصنعة والقوية اقتصاديا، بما لها من بنية تحتية كبيرة ومختبرات طبية متطورة، فماذا عن الدول الإفريقية الغارقة في مشاكل لا حصر لها؟ خصوصا في الجانب الصحي الذي يعرف تهديدا حقيقيا بسبب فيروس كورونا على الرغم من توفر القارة على المركز الأفريقي لمكافحة لمكافحة الأمراض والوقاية منها. القارة الإفريقية في مواجهة تسونامي جائحة كورونا لقد نبهت منظمة الصحة العالمية إلى خطورة انتشار فيروس كورونا في إفريقيا منذ الأيام الأولى، بالنظر إلى هشاشة المنظومة الصحية بإفريقيا، وكذا لوجود العديد من المشاكل، كالتصحر والجفاف والهجرات الجماعية والصراعات المسلحة... كما أن المنظمة ذاتها صرحت بأن الدول التي لها علاقات وثيقة بالصين ستكون الأكثر تضررا من تداعيات كورونا، وهو ما دفع برئيس منظمة الاتحاد الأفريقي الحالي Cyrix Rampatosi لتعيين أربعة مبعوثين خاصين في الأسبوع الثاني من شهر أبريل (وزير المالية السابق لنيجيريا والرئيس السابق للبنك الأفريقي وهو من رواندا، والبنكي الإيفواري الفرنسي، ووزير التجارة السابق لجنوب افريقيا) وتكليفهم بطلب مساعدات اقتصادية من المجتمع الدولي. وهي مبادرة تدخل في إطار تفعيل توصيات كل من قمة مجموعة العشرين المنعقدة في 26 مارس الماضي والاتحاد الأوروبي ومؤسسات مالية عالمية أخرى؛ وذلك "من أجل مساعدة فعالة وعاجلة" للقارة الإفريقية في زمن كورونا. فبعد أن عصفت جائحة كورونا بكل من الصين ودول أوروبا الجنوبية وأمريكا، وهددت اقتصادياتها القوية وتحالفاتها الإستراتيجية المتينة، دفع القلق بكل القادة الأفارقة والشركاء الدوليين إلى التفكير في تجنب كارثة تفشي جائحة كورونا بإفريقيا، أي انهيار الأنظمة الصحية والسلم المجتمعي والاقتصاد في دولها الهشة. لذلك حاول البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مع البنك الإفريقي للتنمية البحث عن إستراتيجية لضمان قروض الطوارئ من طرف مؤسسات مالية عالمية بهدف تدبير أزمات كوفيد 19 من جهة، وعدم إرهاق اقتصاد الدول الإفريقية، خاصة المتماسك منها مثل نيجيريا وأنغولا وزامبيا وجنوب إفريقيا. كما حملت كل التقارير والتوقعات الاقتصادية أخبارا غير سارة عن مستقبل إفريقيا لما بعد زمن كورونا، وحددت بعض المؤسسات المالية العالمية نسبة التراجع في 7 في المائة بالنسبة للدول الإفريقية المنتجة للبترول، و8 في المائة بالنسبة للدول الإفريقية المنتجة للمعادن، مع استحالة أداء الديون الخارجية لإفريقيا؛ وهو ما يُبرر تعيين المبعوثين الخاصين الأربعة من طرف منظمة الاتحاد الأفريقي، وكذا تحركات رئيس الوزراء الإثيوبي الحائز على نوبل للسلام السيد "أبي احمد علي" وانضمامه إلى بابا الفاتيكان في إشكاليات الديون الإفريقية والعقوبات الاقتصادية، والدعوة إلى خلق صندوق عالمي من أجل منع انهيار الأنظمة الصحية بإفريقيا. لكننا نود الإشارة هنا إلى ملاحظة بسيطة قد تحمل بعض الرسائل المشفرة، وهي أن رئيس المنظمة العالمية للصحة إثيوبي، ورئيس المركز الإفريقي للأمراض المعدية والوقاية منها إثيوبي أيضا، كما أن مقر المركز الإفريقي موجود بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، إلى جانب مؤسسات منظمة الاتحاد الإفريقي التي اتخذت من الحائز على جائزة نوبل للسلام، السيد "آبي احمد علي"، عرًابا لحملة المساعدات الدولية، وهو أيضا رئيس الوزراء الإثيوبي. ومن المستبعد أن يكون الأمر مجرد صدفة، ما يدفع إلى التساؤل حول ماهية احتكار إثيوبيا كل ما يتعلق بملف الصحة الإفريقية؟ وهل قامت الأجهزة الإفريقية بتقييم عمل المركز الأفريقي للأمراض المعدية والوقاية منها، والذي أسس على خلفيات فيروس إيبولا سنة 2015 ومدى تحقيق أهدافه في التوعية والتنسيق والوقاية وغيرها؟. وبالعودة إلى المديونية الخارجية فقد شكلت هذه الأخيرة إلى جانب الأمن الصحي الهاجس الكبير للدول الإفريقية ضمن خطة إنقاذ اقتصاديات إفريقيا، خاصة في الدول التي تنهج برامج إصلاحات اقتصادية كبرى كزامبيا، أو التي أعادت جدولة ديونها للتو كأنغولا، أو التي خرجت للتو من صراعات عنيفة دامت سنوات، أو التي عانت من الجفاف والجراد. وتكفي قراءة تقرير اللجنة الاقتصادية لإفريقيا ليوم 16 أبريل الجاري للاقتراب أكثر من خطورة الموقف بالنسبة لكل الدول الإفريقية، حيث جاء فيه "أن أكثر من 300 ألف إفريقي قد يفقدون حياتهم بسبب فيروس كورونا، هذا في وقت تستمر جائحة كورونا في التأثير على الاقتصاديات المتعثرة في القارة التي من المتوقع أن يتباطأ نموها من 3.2 في المائة إلى 1.8 في المائة في أفضل سيناريو، ما يدفع قرابة 27 مليون شخص إلي الفقر المدقع...". وتُضيف الأمينة التنفيذية للجنة الاقتصادية لإفريقيا، الكاميرونية السيدة "فيرا سونغوي"، أنه "من أجل بناء الرخاء المشترك للقارة وحماية ازدهارها هناك حاجة إلى 100 مليار دولار لتوفير فضاء مالي عاجل وفوري لجميع البلدان للمساعدة في تلبية احتياجات شبكة الأمان الفورية للسكان...". وهي قراءة لواقع العديد من البلدان الإفريقية، فنيجيريا مثلا بلد 200 مليون نسمة والغني باحتياطات مهمة من البترول، قدمت طلب قرض لدى صندوق النقد الدولي بقيمة 3.4 مليارات دولار، سيُخصص منها 82 مليون لتعزيز المؤسسات الصحية، مع وجود 87 مليون نسمة على عتبة الفقر المدقع. أما دولة جنوب إفريقيا، وهي إحدى الدول العصرية بإفريقيا، فقد تجاوز فيها عدد عمال القطاع غير المهيكل 3 ملايين نسمة وملايين من العاطلين في القطاعات المهيكلة، مع تراجع قيمة العملة المحلية إلى ربع قيمتها منذ بداية السنة الحالية. ليس هذا فقط، فبالإضافة إلى استحالة أداء الديون الخارجية بسبب فيروس كورونا هناك إمكانية هروب الاستثمارات الخارجية، وبهذا تفقد الدول الإفريقية مصدرا مهما للعملة الصعبة؛ كما أن هناك توقعات بتدهور اقتصاديات دول إفريقية عديدة بفعل طول مدة الحجر الصحي. ولُوحظ انخفاض وتيرة وطرق مساعدة الدول القوية والمؤسسات المالية العالمية للقارة الإفريقية؛ فالاتحاد الأوروبي مثلا ساهم بحوالي 3.25 مليار أورو على شكل برامج سابقة، لكنها لم تكتمل أو في طور الإنجاز، كما ساهمت فرنسا من خلال الوكالة الفرنسية للتنمية بحوالي 1.2مليار أورو لفائدة 19 دولة إفريقية. أما الصين، ومثلما فعلت في سياق مساعدة الدول الإفريقية على مواجهة فيروس إيبولا خلال 2013 و2016، فقد حركت مؤسساتها ومنظماتها لتقديم مساعدات خاصة في شكل أجهزة طبية ولوجستية أو فرق طبية لمواجهة فيروس كورونا، حيث عززت من قنوات الدبلوماسية الناعمة أو "طريق الحرير الصحي" خاصة بالدول التي لها علاقات تاريخية معها، كالجزائر وجنوب إفريقيا وسيراليون وغينيا وليبيريا والكاميرون والكونغو وأنغولا، حيث وصلت ديون الصين لكل القارة الإفريقية 133 مليار دولار. كما قام الملياردير الصيني جاك ما، صاحب موقع "علي بابا"، بتنظيم رحلات جوية من 6 أيام لتقديم مساعدات للدول الإفريقية. الالتزام الإنساني للمغرب مع عمقه الإفريقي أعلن المغرب بدوره الحرب على جائحة كورونا، وقد أشادت العديد من المنابر الإعلامية والمؤسسات العالمية بديناميته وطريقته في مواجهة كورونا، وكيف أوقف الانتشار السريع لكورونا وحد من تداعياته على المواطنين، وكيف جعل منه درسا للتكافل الاجتماعي والالتحام الشعبي مع ملك البلاد والالتزام الجماعي بحماية الوطن والقوة الشرائية للمغاربة وحماية الاقتصاد. وهكذا، وبمجرد ظهور الحالات الأولى للإصابة بالفيروس، أطلق صاحب الجلالة مبادرة تأسيس صندوق تدبير جائحة كورونا، وهو النداء الذي تفاعلت معه مختلف مكونات المجتمع المغربي بالتبرع وتخصيص دعم لفائدة الصندوق الذي تجاوزت قيمة المساهمات فيه في وقت قصير المبلغ المرصود له. كما تلقى الصندوق مساعدات خارجية من شركاء المغرب الدوليين لمواجهة جائحة كورونا، فالاتحاد الأوروبي مثلا قدم له مبلغ 450 مليون أورو منها 150 مليون أورو كمساهمة فورية في صندوق الدعم، والباقي "سيخصص لمساعدة المملكة على مواجهة التحديات المالية المرتبطة بالوباء"؛ في حين قدمت الولاياتالمتحدةالأمريكية دعما بقيمة 670 ألف دولار. ومن أجل ضمان تماسك الاقتصاد الوطني في مواجهة فيروس كورونا، استخدم المغرب على سبيل الاحتياط "خط الوقاية والسيولة"؛ وذلك بسحب حوالي 3 مليارات دولار في إطار اتفاق سابق يعود لسنة 2012 قصد استخدامه كتأمين ضد الصدمات الشديدة مثل جائحة كورونا الحالية. وهي حرب لم تُنس المغرب عُمقه الأفريقي، ولم تنس ملك المغرب دوره كرائد أفريقي كبير، وهو ما لمسناه من خلال الاهتمام بجاليات الساحل وجنوب الصحراء المقيمة بالمغرب وطمأنتهم في زمن كورونا وتوزيع المساعدات عليهم، كالتزام إنساني أولا ودستوري ثانيا، حيث جاء به تصدير دستور 2011 الذي يعمق الانتماء الأفريقي للمغرب بتنصيصه على "تقوية علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الإفريقية، ولاسيما بلدان الساحل والصحراء"، وأيضا "تقوية التعاون جنوب جنوب". لذلك فإننا لم نستغرب لمبادرة جلالة الملك الموجهة لرؤساء الدول الإفريقية بخلق إطار عملياتي يهدف إلى مواكبة البلدان الإفريقية في مواجهتها لكل مراحل تدبيرها للجائحة، وهو ما حظي بإشادة وشكر الرئيس السنغالي لجلالة الملك، وأيضا البرلمان الأفريقي المنعقد يوم 20 أبريل بجنوب إفريقيا. وبالموازاة مع المبادرة الملكية لإفريقيا، ساهم المغرب في التخفيف عن أشقائه الأفارقة من خلال إرسال مساعدات عاجلة إلى جمهورية إفريقيا الوسطى مثلا، وهو ما كان موضوع إشادة من منابر إعلامية وإفريقية وأوروبية مهمة. إن معاناة الدول الإفريقية مع فيروس إيبولا وغيره من الأمراض المعدية لم تنته إلى حد الآن، لتنضاف إليها جائحة فيروس كورونا القاتل الصامت، وهو ما يجعل الحاجة ماسة أولا، إلى ضرورة تفعيل وتطوير اختصاصات المركز الأفريقي للأمراض المعدية والوقاية منها بوتيرة أقوى وأكثر نجاعة. وثانيا، التفكير في آليات ومنظمات صحية جديدة، واستلهام فكرة أطباء بلا حدود على المستوى الأفريقي مثلا، أو خلق منظمة الصحة الإفريقية؛ وثالثا، خلق منصات رقمية للتواصل بين الدول الإفريقية والأطباء والمختبرات والجامعات الإفريقية، واستلهام مبادرات وشراكات ودورات تكوينية للطلبة في ميادين الطب والتمريض والبحث العلمي تشبه برنامج "إراسموس" الأوروبي، لأننا بهذا سنجعل من المعركة ضد كورونا ليس فقط معركة للحد من انتشار الفيروس، وإنما أيضا قاطرة آمنة نحو مستقبل إفريقي متضامن وموحد ومزدهر لكل الشعوب والدول الإفريقية.