في غضون أيام قليلة من انتشار فيروس كورونا المستجد، وانطلاقه من مدينة ووهان الصينية في أواخر دجنبر الماضي، انقلب العالم رأسا على عقب. كورونا هذا الوحش الذي أرعب العالم أجمع أودى بحياة الآلاف من الأشخاص وما زال يفتك بمئات الآلاف ممن انتقلت إليهم العدوى، ومن المرتقب أن يصاب عدة ملايين من الأشخاص في عالم تأكد فعليا أنه قرية صغيرة إذا اشتكت منه منطقة تداعت لها سائر الدول الأخرى بالضرر والعدوى. فالضرر البالغ الذي تسبب به الفيروس على الاقتصاد العالمي أصاب العالم في مقتل، وبدأت الدول الكبرى تحصي خسائر فاقت التريليون دولار، ومن دون شك سيتحمل الاقتصاد العالمي تبعاتها لعدة سنوات مقبلة، باستثناء البيئة التي كان لها رأي آخر في زمن الكورونا الذي قدم هدنة للأرض كانت في أمس الحاجة إليها، حيث باتت الشوارع خالية بفعل إجراءات الحجر الصحي المفروض على الساكنة في دول العالم التي انتشر فيها المرض. بسبب إجراءات الحجر الصحي المفروض على الساكنة في مختلف الدول التي تفشى فيها الوباء، أضحت شوارع وأزقة المدن خالية في سكون تام لم تعهده البشرية؛ فساحات سياحية ذاع صيتها في كبريات دول العالم اختفى سياحها، فها هي ساحة جامع الفنا بمراكش، ساحة غراند بلاس في بروكسيل، تايمز سكوير في نيويورك، الساحة الحمراء في قلب العاصمة موسكو، بيازا سان ماركو في البندقية وساحة تيانانمن في بكين.. نماذج يقصدها ملايين السياح عبر العالم أجبرت كورونا تلك الدول على إخلائها التام من جميع أنشطتها، فانخفض معها منسوب التلوث والضوضاء. ففي زمن كورونا، عادت المياه النقية لتتدفق بالبندقية، وعادت معها الأسماك إلى مجاريها وقنوات البندقية الشهيرة بسبب انعدام حركة القوارب والضوضاء في مشهد غاب لمدة 60 سنة. كما انخفضت درجة تلوث الهواء في العديد من الدول الصناعية الكبرى كالصين التي بينت مجموعة من الصور نشرتها وكالة ناسا تظهر تراجعا ملحوظا لنسبة التلوث، وانخفضت انبعاثات ثاني أكسيد النيتروجين خلال أشهر يناير وفبراير ومارس بعد أن قلصت الصين نشاطاتها الصناعية وتلاشت سحب الغازات السامة من سماء المناطق الصناعية الكبرى. وصور أخرى تظهر انخفاض تلوث الهواء في دول أوروبية عديدة حسب وكالة الفضاء الأوروبية... كلها مؤشرات دلت على تحسن لجودة الهواء حول العالم. فما فشلت فيه الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية للمناخ نجح فيه وباء كورونا خلال أسابيع، وكل الاجتماعات التي كانت تنفق عليها المليارات سنويا للم شمل الأسرة الدولية من أجل حماية الأرض لم تصل إلى ما حققته جائحة الكورونا في ظرف وجيز، وأرغمت دولا صناعية عظمى كالولايات المتحدةالأمريكية على خفض مستويات التلوث مع تزامن إغلاق العديد من المصانع والشركات وشبكات النقل، وأضحى الشغل الشاغل للعالم الآن الحفاظ على الحياة البشرية. والمغرب، على غرار دول إفريقية وعربية، ليس في معزل عن هذه التحولات التي فرضتها جائحة الكورونا، حيث إن إجراءات الطوارئ الصحية وما يرافقها من تدابير للحد من التنقلات وارتياد الفضاءات العامة وتعليق كافة الرحلات الدولية وغلق المقاهي والمطاعم والمرافق الترفيهية سعيا إلى الحد من انتشار الوباء والحفاظ على أرواح المواطنين. كل هذه الإجراءات كان لها الأثر الإيجابي على البيئة، حيث ساهمت في خفض نسب التلوث والتقليل من الأخطار التي تهدد البيئة في مستويات عديدة بربوع التراب الوطني. فعمليات الرصد والتتبع التي نقوم بها في جمعية أوكسجين للبيئة والصحة، إضافة إلى مجموعة من المعطيات التي استقيناها خلال هذه الفترة بمدينة القنيطرة وإقليمها، أكدت لنا أن جل المناطق الرطبة والوديان والغابات وعدة مساحات خضراء تعرف فترة نقاهة قل نظيرها في فترات أخرى. وحتى بعض الحيوانات أتيحت لها الفرصة خلال فترة الحجر الصحي وعزل الناس في منازلهم من أن تستعيد هي الأخرى حريتها وتخرج من مخابئها وتتجول بحرية في بعض الشوارع والساحات على غرار ما وقع في مجموعة من دول العالم، حيث تم رصد مقاطع فيديو وصور تظهر قطعانا من الخنازير البرية تتجول في فضاءات محمية سيدي بوغابة بعد خلوها من الزوار، وكلاب ضالة تنام قريرة العين وسط شوارع رئيسية بمدينة القنيطرة، وأنواع مختلفة من الطيور تتجول بأريحية في غابة المعمورة ومحمية سيدي بوغابة ومرجة الفوارات، في مشاهد قلب معها فيروس كورونا المستجد كل مقاييس وقوانين الحياة سواء هنا بالمغرب أو في باقي دول العالم. وحتى المواطن القنيطري الذي طالما اشتكى من تلوث هواء المدينة وانتشار غبارها، يلمس الآن تحسنا ملحوظا في جودة هواء مدينته وهدوءا وسكينة من ضوضاء شوارعها ووسائل نقلها التي طالما أزعجت المارة. وتجدر الإشارة إلى أن هناك علاقات ملموسة بين مستويات التلوث الجوي وبين أعداد الوفيات وأمراض الربو والتعفنات النفسية وحالات الرمد خاصة لدى الأطفال والنساء الحوامل والأشخاص المسنين والمرضى بجل حواضر المغرب وخاصة القنيطرة، وكل انخفاض في مستويات تلوث الهواء ينعكس إيجابا على صحة جميع المواطنين. وفترة العزل الصحي فرصة ليستفيد المواطن من هواء صحي ونقي ويعيد ترتيب أولويات صحته وبيئته. ولا شك في أن هذه الفترة بالذات ربما ستساعد البشرية في التركيز مستقبلا على أهمية صحة العائلة والمجتمع، وتعيد الاعتبار إلى أهمية الصحة العامة والوقاية من الأمراض، وقد تقود إلى تخفيض الانبعاثات الملوثة والغازات المسببة للاحتباس الحراري وتغير من سلوكياتنا وعاداتنا على المدى الطويل. وبالرغم من ذلك، فإننا نخشى من جشع الإنسان وغطرسته بعد انتهاء وباء كورونا، وأن تنتقم الدول الصناعية الكبرى مثل الصين والولايات المتحدة وأوروبا ومعها المصانع والشركات العملاقة أثناء إعادة إحياء صناعاتها واقتصاداتها بشكل انتقامي لتدارك خسائر أرباحها في زمن الكورونا ولو على حساب بيئة وصحة البشر وجميع الكائنات الحية على كوكب الأرض. كما نسجل أيضا في مقابل ذلك جوانب سلبية في فترة الحجر الصحي من خلال سلوكيات يقع فيها المواطن المغربي على غرار كثير من الدول التي تعيش شحا في الأمطار وفترات جفاف تتطلب منا الحيطة والحذر، خصوصا أن الطلب المتزايد على الماء اليوم في المغرب أصبح أكبر بكثير من الكميات المتوفرة سنويا من الموارد المتجددة من المياه العذبة حسب التقارير الأخيرة، وبالتالي ندعو في جمعية أوكسجين للبيئة والصحة جميع المواطنين إلى الاعتدال في استخدام الماء والكهرباء وترشيد استهلاكهما قدر المستطاع. كما ندق ناقوس الخطر حول ما تنتجه هذه الأزمة من انتشار للعديد من أنواع النفايات الطبية الخطيرة من كمامات وأقنعة وقفازات ملوثة ومعدات الحماية المستعملة في الكثير من المصحات ومراكز الاستشفاء، والتي قد تتسبب في كارثة غير متوقعة على صحة الإنسان وبيئته، خصوصا أننا نفتقر إلى طرق المعالجة الخاصة والآمنة للنفايات الطبية في العديد من المدن؛ الشيء الذي يتطلب منا فصل هذه النفايات وتخزينها ومعالجتها والتخلص منها بشكل آمن حماية للجميع كما تضمنته المبادئ التوجيهية التقنية لاتفاقية بازل بشأن الإدارة السليمة بيئيا للنفايات الطبية الحيوية وللنفايات الصحية، للمساهمة في حماية الجميع من كل الأخطار الصحية والبيئية. وأكيد أن الدروس التي تستفيد منها البشرية الآن في جائحة كورونا ستجعلنا نعيد النظر في العديد من الأمور وفرصة لترتيب أولوياتها التي ستأتي في مقدمتها المنظومة الصحية والتعليمية والحالة البيئية. *باحث في علوم المجال والتنمية المستدامة ورئيس جمعية أوكسجين للبيئة والصحة