نبدو هكذا ومن قلب ما يقاسيه العالم منذ أشهر، وكأننا في مشهد درامي من فيلم مرعب بسبب مخلوق غير مرئي يسمى “كوفيد 19″، والذي أجمعت البشرية على محاربته بعدما أزهق عشرات الآلاف من الأرواح وزرع الرعب في دول العالم، وهو العدو عينه غير الآبه بالتداعيات التي تسبب فيها على الاقتصاد، وعلى الصحة، وعلى المجتمعات وعلى الاستقرار السياسي بحد ذاته. لكن، ماذا إذا خرجنا من قلب هذا المشهد وشاهدناه من فوق.. أقصد من فوق تماما، أي الصورة التي رصدتها الأقمار الصناعية التي أصدرتها “ناسا” ووكالة الفضاء الأوروبية، والتي أظهرت أن كوكب الأرض هو أكبر مستفيد من فيروس “كورونا”. كيف ذلك؟ توصل مجموعة من خبراء البيئة الدوليين والمسؤولين بوكالة “ناسا”، إلى أن العالم خلال الأسابيع القليلة الماضي، عرف ارتفاعا غير مسبوق في جودة الهواء على مستوى عدد من المدن الصناعية، وانخفاضاً هو الأول من نوعه في نسب انبعاثات الغازات السامة والملوثات المسببة للاحتباس الحراري، ويرجع هؤلاء الخبراء هذا التحول غير المسبوق في شقه الايجابي الذي طرأ على كوكب الأرض إلى إجراء الحجر الصحي الذي اتخذته مجموعة من الدول، بما فيها تلك الصناعية والمعروفة بالانبعاثات الغازية المضرة، للتصدي لفيروس “كورونا” المستجد ووقف انتشاره. وجاء في دراسة لكلية الصحة العامة بجامعة “هونغ كونغ”، اطلعت عليها “أخبار اليوم”، أنه وبعد ظهور “كوفيد 19” في “ووهان” وتفشيه في مقاطعة “هوبي”، قررت السلطات الصينية فرض الحجر الطبي وإغلاق المصانع وإخلاء الشوارع، ما انعكس إيجابا ودونما قصد مسبق على جودة الهواء، إذ ارتفع متوسط عدد “أيام الهواء عالية الجودة” بنسبة 21.5٪ في فبراير، مقارنة بالفترة عينها من العام الماضي، وفقاً لوزارة البيئة الصينية، كما انخفضت ملوثات الهواء الرئيسة بنسبة تقارب الثلث من يناير إلى فبراير، وفقا للبيانات التي جاءت في الدراسة عينها. وسجل خبراء البيئة، كذلك، إلى أنه وطيلة فترة الحجر الطبي، انخفض الطلب على الكهرباء والإنتاج الصناعي إلى أدنى مستوياته في الصين، كما انخفض استهلاك الفحم في محطات الطاقة بنسبة 36%، وانخفضت معدلات تشغيل منتجات الصلب الرئيسية بأكثر من 15%، كما انخفض إنتاج الفحم بنسبة 29%، وانخفض استخدام فحم الكوك بنسبة 23%، كما انخفضت مستويات غاز ثاني أكسيد النيتروجين بنحو 30%. كل هذه التدابير الوقائية، التي اتخذتها السلطات الصينية من أجل احتواء فيروس كورونا، أدت أيضا إلى انخفاض في الإنتاج من 15% إلى 40% في القطاعات الصناعية الرئيسية، ما أدى إلى القضاء على ربع أو أكثر من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الصين على مدار الأسابيع الأربعة الماضية، مما قلل من مستويات التلوث في الصين، في حين أنه في الفترة عينها من عام 2019 أطلقت الصين نحو 800 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون، مما يعني أن انتشار فيروس كورونا تسبب في انخفاض الانبعاثات العالمية بمقدار 200 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون حتى منتصف شهر مارس. هذه المعطيات الرقمية التي اطلعت عليها الجريدة أظهرتها، أيضا، صور الأقمار الصناعية التي أصدرتها ” ناسا” ووكالة الفضاء الأوروبية، قبل أسابيع، والتي بينت بشكل ملحوظ كيف حدث نوع من الانخفاض الحاد في انبعاثات ثاني أكسيد النيتروجين التي تطلقها السيارات ومحطات الطاقة والمنشآت الصناعية في مدن صينية كبرى، طيلة فترة الحجر الطبي الذي قيد حركات النقل والإنتاج. صور وكالة الفضاء الأوروبية، سجلت، كذلك، اختفاء السحابات المرئية من الغازات السامة التي عادة ما تحوم فوق المنشآت الصناعية في الصين وإيطاليا وألمانيا وغيرها من الدول الصناعية، وهو ما اعتبره الباحث بمركز جودة الهواء في ناسا “في ليو” “نتائج مثيرة للدهشة، وبفضل كورونا استطاعت الأرض أن تنعم بالهدنة المطلوبة لالتقاط أنفاسها، وتنظيم الهواء ميكانيكيا”. سعيد شاكري الخبير الدولي في البيئة: الحجر الطبي واحد من أفضال “كورونا” على كوكب الأرض ولتفسير هذه المعطيات العلمية، وسبب هذا التحول الإيجابي الكبير على كوكب الأرض، والذي تسبب فيه مخلوق “مكروه” دوليا، يقول سعيد شاكري، الخبير الدولي والمستشار في القضايا البيئية، إنه علينا أولا أن نفهم سبب انتكاسة البيئة من بؤرة الصين مصدر الوباء. شاكري، وفي تصريح ل”أخبار اليوم”، قال إن الأزمة العالمية أولا، تسبب فيها سوق “ووهان” للحيوانات، والذي يشكل أساسا مشكلا بيئيا، حيث إنه “يتم الاتجار غير المشروع في بعض الحيوانات الممنوعة في خرق واضح للاتفاقية الدولية للاتجار في الحيوانات البرية، وهذا يعني أنه كان هناك أساسا مشكل بيئي، جعل الفيروس ينتقل من الحيوان إلى الإنسان” مضيفا: “هذا إلى جانب العادات الغذائية عند الشعب الصيني، والتي تنافي السلسلة الغذائية أو ما يُسمى la chaîne alimentaire، أي إنهم يأكلون بعض الحيوانات التي لا يفترض أن تكون في السلسلة الغذائية للإنسان، والتي يكون لديها دور في الطبيعة، أي إن الإنسان الصيني عندما يأكلها يساهم في الإخلال بتوازن الطبيعة”. وهاتان النقطتان، بحسب الخبير البيئي، هما أساس المشكل الذي أوصل العالم لما هو عليه الآن، لتبدأ قصة فيروس “كورونا” مُرعِب العالم. الخبير البيئي، الذي بصدد العمل على دراسة في الموضوع عينه، أكد للجريدة أن ما نعيشه اليوم، ما هو إلى نتيجة لسنوات طوال من التحذيرات التي طالما رددها الخبراء والعلماء بخصوص التغييرات الحاصلة على كوكب الأرض، خاصة التنبيهات التي تقول إننا سائرون في توجه خطير لا رجعة فيه، بسبب التلوث واستهلاك الموارد الطبيعية، وعدم استحضار المستهلكين حول العالم للجانب البيئي”. هذا التحذير الذي كان يوجهه العلماء إلى دول العالم، في الدراسات والندوات والاجتماعات الدولية التي تناولت الموضوع بنوع من الحدة، لم يكن يؤخذ بعين الاعتبار قبل “كورونا”، بحسب ما أورده شاكري، وهو ما قسّم العالم إلى قسمين: الأول هو تلك الدول التي لديها ازدواجية في المواقف، أي إن خطاباتها شيء، وممارستها شيء آخر، مثل فرنسا وألمانيا، التي تكون سباقة للخطابات وما هو مرتبط بحماية البيئة، ولكن الواقع اليومي يقول شيء آخر لأنه دائما الجانب الاقتصادي يتحكم بهم. ثم القسم الثاني، المتمثل في الدول المتخلفة أو العالم الثالث الذي يتذرع بغياب كل ما هو تقني وعلمي، والذي تقول دوله من حقنا أن نأخذ من الطبيعة تماما كما فعل أسلافنا في إطار التنمية.. وكل هذا يحدث في غياب الإرادة الدولية الحقيقية من أجل حل مشكل البيئة”. ويرى الخبير الدولي في البيئة، أن من أفضال “كوفيد 19″، الحجر الطبي الذي حسّن من واقعنا وجعل كوكب الأرض يتنفس نوعا ما بسبب الانخفاض الملحوظ في انبعاثات الغاز، وليبدو بشكل جلي للعالم بأسره أن تحذيرات العلماء ليست تضخيما أو ترفا، بل واقعا، ليتحول الخطاب من الأرقام والدراسات النظرية إلى درس تطبيقي شاهده الجميع في صور “الناسا” التي تقول إذا أردتم كرة أرضية نظيف ونتائج فضلى، ها هي النتيجة في شهور قليلة، وإذا أردتم أوكسجينا نقيا يجب تخفيض انبعاثات المواصلات. ولا يتوقع شاكري أن يتغير أي شيء بعد فيروس “كورونا”، مشيرا إلى أن الإنسانية علمتنا أنها تنسى بسرعة، ثم عندما ستزول هذه الأزمة، ستعود الدول إلى ممارساتها غير المشروعة، وكل هذه الفترة التي ارتاحت فيها الأرض ستدفع ثمنها في مدة قليلة، تماما كما حدث في الأزمة الاقتصادية لسنة 2008. وينصح الخبير الدولي المواطنين بالتكيف مع الوضع الجديد للحجر، وأن يعوا أن الطريقة أو “مود” الاستهلاك الذي كانوا يتبعونه قبل كورونا يجب أن يتغير، كما يجب، أيضا، أن نأكل محليا، وأن نتبع نظاما غذائيا صحيا، ربما تقاليدنا القديمة كانت أكثر رأفة بالطبيعة من اليوم وأبسط مثال أن المغاربة في القديم كانوا يأكلون اللحم مرة في الأسبوع وهو يوم السوق الأسبوعي، أما باقي الأيام، فإنهم يأكلون الخضر وغيرها من المواد المحلية الصحية”، يقول المتحدث، موصيا، أيضا، بضرورة “المحافظة على الماء والطاقة خلال فترة الحجر الطبي”. شفيل، مديرة مركز الكفاءات للتغيرات المناخية: رقمنة الإدارة ومنع الطبع والدراسة عن بعد وفّرت طاقة كبيرة في المغرب وخارجه من جانبها، قالت رجاء شفيل، مديرة مركز الكفاءات للتغيرات المناخية، إنه مع الأسف الشديد الأرض ممتنة لفيروس “كورونا”، الذي خفّض استعمال الطاقة في العالم بأسره، بسبب توقف الصناعة وإنتاج الطاقة إلى جانب استخراج البترول الذي تراجع بشكل كبير في الأسابيع القليلة الماضية. الأخصائية في التغييرات المناخية أكدت ل”أخبار اليوم” أنه حدث نوع من التراجع على مستوى كميات الغازات الدافئة في الجو، ما ساهم وسيساهم إلى حد ما في الحد من التغيرات المناخية، وهذا ما أظهرته صور “الساتليت” التي التقطت لإيطاليا والصين وعدة دول صناعية ما يبين أن التلوث انخفض بشكل كبير حول العالم. وتشدد شفيل في تصريحها على أن “كوفيد 19″، يجب أن يلقن الجميع درسا كبيرا، وهو أن أي مصيبة أو كارثة ضربت العالم، فهي لا تميز بين الدول الغنية أو الفقيرة، المتقدمة أو العالم الثالث، وبسبب العولمة أصبحت تضع الجميع في كفة واحدة. وثمنت الأخصائية في تصريحها الإجراءات التي اتخذها المغرب خلال الأسبوعين الأخيرين، “وهو التطور الكبير في الحياة اليومية الذي كان يلزمه سنوات، لكن المملكة استطاعت تحقيقه في أيام معدودة”، على حد تعبير شفيل، التي أوردت أن “الدراسة عن بعد التي اعتمدتها الدولة أو دمقرطة التعليم، فضلا عن الاشتغال عن بعد، يساهم في المحافظة على الطاقة وبالتالي المساهمة في الحد من التغيرات المناخية”. وزادت الأخصائية بالقول: “اليوم، في بلدنا أصبح حتى الطبيب من الممكن أن تستشيره عن بعد، والإدارة يمكن أن تأخذ بعض الأوراق عن بعد، يعني حدث نوع من رقمنة الإدارات في المغرب، ما ساعد في أن الإنسان سيقيد تنقلاته، وبالتالي، توفير الطاقة، وأيضا عدم استعمال الأوراق وما له من أثر على الغابات، وتحديد تنقل الحافلات والقطارات، وكل ما يسهم في الانبعاثات الغازية”. أكدت المتحدثة في تصريحها، على أن الأزمة التي يمر منها المغرب، كما باقي دول العالم يجب أن نستخلص منها العبر من أجل المساهمة في الحد من استنزاف الموارد الطبيعية، وأتمنى أن تكون رقمنة الإدارة حقيقة في بلدنا بعد كورونا، لأنها لن توفر فقط الماء والكهرباء وساعات العمل، بل، أيضا، ستوفر التنقل”، مشيرة إلى أن “الحق في الوصول إلى المعلومة بذاته تحقق مع كوفيد 19، بعدما جرى تحويل كل صحف وجرائد العالم والمغرب إلى “أونلاين”، ما يوفر ملايين الأطنان من الأوراق الخاصة بالجرائد والطاقة في الطبع والتوزيع والبيع”، على حد تعبير المتحدثة.