سُجل تحسن لافت في جودة الهواء في البلدان التي تشهد شللا شبه كامل للأنشطة الاقتصادية بسبب فايروس كورونا المستجد بفعل تراجع مستويات التلوث الجوي، لكن لا يزال من المبكر التكهن بآثار هذا الوضع على المدى الطويل. وبعد أن أعلنت العديد من الدول الأوروبية والعربية، فضلا عن الصين، عن إجراءات حظر التجوال، ومنع التجمعات وإغلاق فضاءات الترفيه وإلغاء العديد من الفعاليات، يرى خبراء أن تلك الخطوات عامل أساسي يساهم في تنظيم الهواء والحد من التلوث، وبالتالي يمكن القول إن هناك تأثيرا إيجابيا لكورونا. وبحسب تقرير نشرته شبكة "سي إن إن" الأميركية، فإن إغلاق المصانع وخلوّ الشوارع في المدن جعلا من كوكب الأرض "المستفيد الأول". وقالت إن حالة الإغلاق العام الذي شهدته العديد من المدن والدول جعلنا نرى سماء صافية. اللون الأزرق أظهرت صور التقطتها الأقمار الصناعية التابعة لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا) الشهر الماضي تراجعا كبيرا في مستوى تركيز ثاني أكسيد النيتروجين الناجم بشكل رئيسي عن المركبات ومراكز إنتاج الطاقة الحرارية، في مدينة ووهان الصينية منشأ وباء كورونا المستجد. وبعدما كانت خريطة التلوّث في المنطقة باللونين الأحمر والبرتقالي، انتقلت إلى الأزرق بفعل تقلص مستويات التلوث. وسجلت وكالة الفضاء الأوروبية الظاهرة عينها مطلع الشهر الجاري في شمال إيطاليا التي يقبع سكانها في الحجر المنزلي منذ أسابيع لتطويق انتشار الفايروس، كذلك لوحظ الوضع نفسه في مدريد وبرشلونة حيث فرضت تدابير الحجر على السكان منذ منتصف مارس، وفق الوكالة الأوروبية للبيئة. ويسبب ثاني أكسيد النيتروجين التهابا قويا في المجاري التنفسية، وهو من الغازات الملوّثة ذات أمد الحياة القصير. طوارئ مناخية ويوضّح فنسان هنري بوش من برنامج "كوبرنيكوس" الأوروبي لمراقبة الأرض، أن هذا الغاز "يبقى يوما واحدا في الغلاف الجوي" ويستقر على مقربة من مصادر الانبعاثات، ما يجعل منه مؤشرا جيدا لكثافة الأنشطة البشرية. الصين، التي تعد بؤرة انتشار كورونا، والتي يعرف عن بعض مدنها بأنها من أكثر المدن تلوثا في العالم، أعلنت أن معدل الأيام التي كان فيها الهواء نظيفا زاد بنسبة 21.5 في المئة في فبراير مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. كما أظهرت صور الأقمار الصناعية التي أصدرتها ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية انخفاضا حادا في انبعاثات ثاني أكسيد النيتروجين التي تطلقها السيارات ومحطات الطاقة والمنشآت الصناعية في مدن صينية كبرى بين يناير وفبراير، وذلك بعد انتشار كورونا. وبحسب تلك الصور اختفت تقريبا السحابات المرئية من الغازات السامة التي عادة ما تحوم فوق المنشآت الصناعية. وأشارت شبكة "سي إن إن" أن ذلك يعود إلى توقف العديد من المصانع عن الإنتاج فضلا عن تقييد حركات النقل منعا لانتشار الفايروس. وقد أوضحت الباحثة في وكالة الفضاء الأميركية في ليو في تعليق على تقلص التلوث في الصين "هذه المرة الأولى التي أرى فيها تغييرا بهذه الدرجة في منطقة بهذا الحجم بفعل حدث معين". ويقول ألبرتو غونزاليز أورتيز الاختصاصي في جودة الهواء في الوكالة الأوروبية للبيئة، إنه حتى في الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008 و2009، كان التراجع "أكثر استمرارا على المدى الزمني". وقد أدى إغلاق المدن في شمال إيطاليا إلى انخفاض كبير في أكسيد النيتروس والجسيمات الدقيقة في الهواء، وفقا لبيانات الأقمار الصناعية. ويلفت فنسان هنري بوش إلى أن مستويات التركيز الوسطي بثاني أكسيد النيتروجين في شمال إيطاليا تراجعت إلى النصف تقريبا. ووفقا لوكالة البيئة الأوروبية، يؤدي تلوث الهواء إلى حوالي 400 ألف حالة وفاة مبكرة في أنحاء القارة سنويا رغم توجيهات الاتحاد الأوروبي بشأن جودة الهواء. مؤشرات إيجابية في بلدان ومناطق أخرى اتخذت تدابير حجر منزلي ومن بينها فرنسا وبلجيكا والأرجنتين وتونس وكولومبيا وكاليفورنيا وبافاريا، يتعين الانتظار قليلا لرصد تطور الوضع. وذلك لا يعني أن الهواء في العالم بات نقيا، ففي الصين، سجلت بكين محطات تلوث بالجسميات الدقيقة في فبراير بحسب بيانات مرصد "ناسا إيرث"، كذلك الأمر مع باريس التي سجلت معدلا متوسطا في مؤشر التلوث رغم تدابير الحجر المنزلي، بفعل وجود جسيمات دقيقة وغاز الأوزون في الغلاف الجوي. ويوضح فنسان هنري بوش، أن تركيز المواد الملوثة قد يتغير تبعا للأحوال الجوية فيقول "بعض مصادر الانبعاثات مثل إنتاج الطاقة وتلك المتصلة بالسكن لا تتراجع على ما يبدو عندما يلازم عدد أكبر من الأشخاص المنازل". ويلفت إلى أن مستويات الجزيئات الدقيقة (2.5 ميكرومتر و10 ميكرومتر) وأول أكسيد الكربون "ستتراجع أيضا مع الوقت". خصوصا بفعل تراجع حركة النقل والصناعة، لكن كيف سيكون الأثر الصحي لهذا الوضع المستجد. نبأ سار مؤقتا يشير الاختصاصي الفرنسي في معالجة الأمراض الرئوية برونو أوسيه إلى أن "أي تراجع في التلوث نبأ سار". وعلى المدى القصير، يسبب التلوث بالجزيئات الدقيقة التهابات في العينين والحلق ومشكلات تنفسية. ولدى الأشخاص المسنين أو المصابين بالربو قد تكون الرعاية الطبية لازمة لمعالجة مشكلات تنفسية أو قلبية وعائية في الأيام والأسابيع التي تلي التعرض لهذه العناصر. وقد تنتهي الحالات الأكثر خطورة بالوفاة. وعلى المدى الطويل، قد يؤدي ذلك إلى أمراض مزمنة أو تنفسية أو قلبية وعائية أو سرطان في الرئة. ويوضح أوسيه أن التزام المنزل قد يتيح "تقليص الالتهابات"، خصوصا في ظل ارتباط جودة الهواء في داخل المساكن بتلك المسجلة في الخارج. ويلفت تجمع "إير سانتيه كليما" الطبي الفرنسي إلى أن "تدابير الحجر المنزلي تؤدي إلى نتيجة مضاعفة، سواء من خلال الحد من مخاطر انتقال العدوى بين الأفراد أو عبر تقليص التلوث خصوصا بالجسيمات الدقيقة جراء حركة المرور". غير أن ألبرتو غونزاليز أورتيز يشير إلى صعوبة التكهن بالتبعات على المدى الطويل لأن "الأثر الأكبر ينجم عن التعرض على المدى الطويل". خطر مزدوج حذر الاتحاد الأوروبي للصحة العامة من أن الهواء الملوث في المدن الذي يسبب ارتفاعا في ضغط الدم والسكري وأمراض الجهاز التنفسي، قد يؤدي إلى ارتفاع عدد الوفيات الإجمالية الناجمة عن الفايروس الذي يجتاح العالم حاليا. وقالت جمعية الجهاز التنفسي الأوروبية وهي عضو في الاتحاد إن الانبعاثات من المحركات العاملة بالبنزين والديزل لا تزال عند مستويات "خطرة" ويمكن أن تعرض الأشخاص الأكثر ضعفا للخطر خلال الجائحة الحالية وغيرها في المستقبل. وأوضحت ساره دي ماتيس العضو في الجمعية أن "المرضى الذين يعانون من أمراض رئوية وقلبية مزمنة ناجمة عن التعرض لوقت طويل لتلوث الهواء، هم أقل قدرة على مكافحة التهابات الرئة وأكثر عرضة للوفاة". وأضافت الأستاذة المساعدة في مادة الطب المهني والبيئي في جامعة كالياري الإيطالية "من المحتمل أن تكون هذه هي الحال بالنسبة إلى وباء كوفيد – 19". ورغم عدم وجود صلة مثبتة في الوقت الراهن بين معدل وفيات فايروس كورونا المستجد وتلوث الهواء، فقد أظهرت إحدى الدراسات حول تفشي فايروس سارس في العام 2003 أن المرضى في المناطق التي تتمتع بمستويات تلوث هواء معتدلة هم أكثر عرضة للوفاة بنسبة 84 في المئة من المرضى في مناطق تلوث الهواء فيها منخفض. ويتشابه وباء "كوفيد – 19" مع فايروس سارس ويمكن أن يسبب فشلا تنفسيا في الحالات الشديدة. حالة طوارىء مناخية أظهرت دراسة نشرت مؤخرا في مجلة "كارديوفاسكلر ريسيرتش"، أن تلوث الهواء يقصّر أمد الحياة في أنحاء العالم بما يقرب من ثلاث سنوات في المتوسط، ويؤدي إلى 8.8 مليون حالة وفاة مبكرة سنويا. وقالت نائب الأمين العام للاتحاد ساشا مارشانغ، إنه يجب على الحكومات إعطاء الأولوية لخفض نسبة المركبات الملوثة على الطرق لتجنب بعض الوفيات خلال تفشي فايروسات في المستقبل. وأضافت "كان يجب على الحكومات معالجة تلوث الهواء المزمن منذ فترة طويلة ولكنها أعطت الأولوية للاقتصاد على الصحة من خلال التهاون في قطاع صناعة السيارات". وأوضحت، "يفيد العلم أن الأوبئة مثل ‘كوفيد – 19" ستحدث بتواتر متزايد، لذلك فإن تنظيف الطرق هو استثمار أساسي لمستقبل صحي أكثر". ويعتقد مايكل أوبنهايمر من جامعة برينستون أن "الحل الوحيد هو الحصول على التزام صارم بالعمل" من الدول الرئيسية. في الواقع، لم تسر الأمور في هذا الاتجاه خلال مؤتمر المناخ الأخير الذي نظّمته الأممالمتحدة في مدريد في ديسمبر. وتتوجّه الأنظار حالياً إلى قمة المناخ التالية التي ستعقد في غلاسكو في نوفمبر المقبل لرؤية كيف سيعيق الوباء الجديد الاستعدادات لها، خصوصاً بعدما أثّر بالفعل على مؤتمر الأمم المتّحدة حول التنوّع البيولوجي المزمع عقده في أكتوبر في الصين. وقال سيباستيان تراير، المدير العام لمعهد التنمية المستدامة والعلاقات الدولية، إنه كان يفترض نقل المفاوضات التحضيرية إلى روما في فبراير، وإن "الأزمة منعت الصين من لعب دور رئيسي نشط". إلى ذلك، تعتقد آمي مايرز جافي، من مجموعة "كاونسل أون فورين ريلايشنز" الأميركية، أنه يمكن استخلاص دروس إيجابية من هذه الأزمة على المدي الطويل، ولاسيما فيما يتعلّق ب"تغيير العادات" وخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وتشير إلى أن "80 في المئة من السلع والبضائع تنقل عبر البواخر في العالم (…) وفي حال تمّ تقليص سلاسل الإنتاج بعد أزمة كورونا، يمكن المحافظة على بعض مزايا خفض الانبعاثات الحاصلة". ويقول لي شو المتحدث باسم منظّمة "غرينبيس" إن "وباء كورونا يعود في جزء منه إلى اختلال التوازن الصحّي بين البشر والطبيعة، وبالتالي لا ينبغي تفويت هذه الفرصة لإعادة هذا التوازن"، مضيفا إننا "في النهاية في وسط حالة الطوارئ المناخية".