من الصعب أن ننكر أن جائحة "كوفيد التاسع عشر" قد ألحقت تغييرا مهما بالتوازنات السياسية والاقتصادية العالمية. لكن، لا يجب أن ننسى، ونحن في غمرة الجائحة، أن هذا هو شأن جميع الأزمات والارتجاجات العنيفة التي تعرض لها النظام الليبرالي الذي وُضِعَتْ ركائزه عبر تأسيس صندوق النقد والبنك الدوليين، بموجب اتفاقات "بروتن وودز". وقد زلزلت الاتفاقات سالفة الذكر تقاليد النظام الدولي المتمخض عن اتفاقات "وستفاليا" لسنة 1648 من خلال اعتمادها على آلية التصويت المرجحي Le vote pondéré، بدل التصويت الديمقراطي (دولة واحدة = صوت واحد) الذي اعْتُمِد فيما بعد، جزئيا، من لدن منظمة الأممالمتحدة، وجرى، بالنتيجة، ربط مساهمة الدول في صناعة القرار الاقتصادي والمالي العالمي بحجم اقتصاداتها. تجدر الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن إحداث صندوق النقد والبنك الدوليين تم سنة 1944 متقدما بأكثر من سنة على إحداث منظمة الأممالمتحدة سنة 1945 والتي اعتمدت، كما قلنا، التصويت الديمقراطي جزئيا من خلال الاعتداد به في الجمعية العامة و"نسيانه تماما" في تركيبة مجلس الأمن حيث صناعة القرار محتكرة من لدن الأعضاء الخمس الدائمين. لقد أبان النظام الليبرالي عن قدرة فائقة على ابتلاع الأزمات وتدجينها، وهذه القدرة تتقاسم العديد من أوجه الشبه مع قدرة الفيروسات على التأقلم مع المتغيرات البيئية. لقد خرج النظام الليبرالي منتصرا من الحرب الباردة التي نافس خلالها غريمه الشيوعي بضراوة، كما واصل زحفه العالمي بعد إنفاذ اتفاقات مراكش التي تمخضت عنها المنظمة العالمية للتجارة، ثم أبان عن قدرته على تفكيك أزماته الداخلية والتغلب عليها، كأزمة 2008. إن القدرة على التكيف مع الأزمات وتليينها تعتبر إحدى أبرز خصائص النظام الليبرالي، بل إنه يعتبر نظام تدبير الأزمات والمخاطر كيفما كانت مظاهرها ومهما اشتدت حدتها. وترتبط هذه القدرة، أساسا، بالطابع غير المؤدلج Le caractère désidéologique لليبرالية نفسها. وعليه، فلن يتردد الأمريكيون أو البريطانيون، أو معتنقو الليبرالية في معانيها الأكثر شراسة، في تنفيذ "وصفات اشتراكية المذاق" للتغلب على الأزمات. وقد حدث هذا، فعلا، خلال أزمة 2008. تأسيسا على ما سبق، إن الترويج لاندلاع قيامة جديدة للدولة الوطنية L'Etat-Nation بعد خمود الجائحة مبالغ فيه، أما سيناريو ظهور موجات إعادة تأميم فهو يفتقر إلى أبسط مقومات الوجود. إضافة إلى قدرتها على التأقلم مع الأزمات، جدير بالملاحظة أن الدول تستخدم "وصفات تدخلية وإنقاذية" لمواجهة آثار الجائحة، تتطابق مع الوصفات التي جرى استخدامها إبان أزمة 2008 لإنعاش الاقتصاد العالمي. وتتجلى الوصفات المذكورة في تقديم تسهيلات استثنائية للمقاولات كي تحصل على التمويل وإعانتها على تحمل النفقات الجارية، مع إعطاء مكانة الشريك المتميز للقطاع البنكي في كل هذه الإجراءات. إن أدوات تدبير ما بعد جائحة "كوفيد التاسع عشر" ستُسْتَمدُّ من النظام الليبرالي نفسه، وقد بدأ استعمال هذه الأدوات على أرض الواقع، ولن يكون عالم ما بعد الجائحة نقيضا لعالم ما قبلها. طبعا، قد تدفع احتقانات اجتماعية إلى إحداث تغييرات محدودة على مستوى الخطاب السياسي وسلم الأولويات، أما البُنى الصلبة للاقتصاد العالمي فستبقى، وسنتحدث بعد سنوات عن "كوفيد التاسع عشر" كإنجاز انضاف إلى لائحة إنجازات Le palmarès النظام الليبرالي. *أستاذ بجامعة القاضي عياض، مراكش