قد تدفع "حالة الخوف العالمية التي ولّدها فيروس كورونا المستجدّ إلى أزمة اقتصادية عميقة تعرّض الاقتصاد العالمي لخسائر لم يشهدها من قبل"، وفق دراسة نشرها مركز المستقبل للأبحاث والدّراسات المتقدّمة؛ لأن هذا الخوف قد أصبح المحرّك الأساسي لعملية اتخاذ القرار، بداية من القرار البسيط في حياة الناس حول شراء الاحتياجات الاستهلاكية، ووصولا إلى القرارات الحكومية المتعلقة بآليات المكافحة، والآليات الاقتصادية اللازم تبنّيها. ووصفت الدراسة التي أعدّها علي صلاح، رئيس وحدة التحوّلات الاقتصادية بمركز المستقبل للأبحاث والدّراسات المتقدّمة، أزمة جائحة فيروس "كورونا" المستجدّ بالأزمة العالمية الشّاملة، التي تمثّل تحدّيا بالنسبة لجميع الدّول التي يمكن أن تضطّر، في الوقت نفسه، لمواجهتها منفردة دون انتظار مساعدةِ دول أخرى، وزادت: "أكثر ما يجلب القلق الآن هو أنّ حالة الخوف العالمية تدفع الحكومات والأفراد إلى الإقدام على قرارات من شأنها تقويض حركة التجارة وحركة الأفراد، مع تهديدها الاقتصاد العالمي، إذا ما استمرّت لفترات طويلة، بفقدان أسس استقراره، ما قد ينتج عالما ذا نظام اقتصادي جديد، ستتكبّد فيه خسائر ليست مادية فقط، بل تفقر ملايين البشر، وتهدّد الأمن الغذائي للعديد من الشعوب، وتُحوّل دولا غنية إلى دول فقيرة. وتضيف الدراسة أنّ العالم منذ تاريخ طويل لم يشهد مثيلا للتطوّرات الراهنة، في ظلّ الانتشار العالمي السريع لفيروس "كورونا" المستجدّ، الذي صار قاب قوسين أو أدنى من الخروج عن السّيطرة، رغم كلّ الإجراءات التي تتّخذها الحكومات لمنع انتشاره، والحدّ من تبعاته على الاقتصاد العالمي بكلّ قطاعاته. وتعيد هذه الأزمة النّظر، وفق المصدر نفسه، في الكثير من المفاهيم الاقتصادية، خاصّة المرتبطة منها بدور الدولة في الاقتصاد، وطبيعة الأنشطة الاقتصادية وأساليب أداء العمل والإنتاج بها، وعلاقة بين المنتج والمستهلك، إضافة إلى إعادة صياغتها مفهوم العولمة ليناسب "مرحلة ما بعد كورونا"، بتصيِير نموذجه "ذا طابع محلي"، ب"عولمة التباعد الدولي"، التي "تحافظ على قدر من الترابط مع العالم، لكنّها تبقي مسافة فاصلة"، للخروج بالعالم من أسلوب التباعد الاجتماعي المطبّق اليوم لمحاصرة جائحة "كورونا". وتذكر الدراسة أنّ هذه الأزمة التي تقارن بأزمة 2008 المالية، والكساد الكبير في 1929، يترقّب، وفق العديد من التقديرات، أن تتسبّب في خسائر اقتصادية عالمية تقارب 2.7 تريليونات دولار كحدّ أدنى (أي 2700 مليار دولار)، مع وجود تقديرات أخرى ترجّح أنّ خسائر الاقتصاد العالمي جرّاء هذه الأزمة خلال النصف الأوّل من السنة الجارية ستصل نحو 6 تريليونات (6000 مليار دولار). واستشهد هذا العمل البحثي بتصريح كريستينا جورجيفا، المديرة العامّة لصندوق النّقد الدولي، الذي قالت فيه إنّه "لم يحدث في تاريخ الصندوق أن رأينا الاقتصاد العالَمي يُصاب بمثل هذه الحالة من الشّلل، ونحن الآن في حالة ركود. إنّه طريق أسوأ من الأزمة المالية العالمية"، ثم أضاف موضّحا أنّ مستوى تأثّر الاقتصاد العالمي ومدى اقتراب معاناته مما بلغته مع "الكساد الكبير" مرتبط بالفترة التي ستستغرقها الأزمة، قبل أن يزيد: "أمّا إذا استمرت الأزمة الراهنة، وعمدت الحكومات إلى إغلاق المزيد من القطاعات، والتوجّه إلى وضع قيود على تصدير السلع والمنتجات إلى الخارج، أو حتى منع التّصدير، فإنّ ذلك سيعني مجابهة الاقتصاد العالمي أزمة لم يشهد لها مثيلا على مرّ التاريخ، ولن يكون كساد 1929 بجانبها سوى أزمة هامشية". ومن بين أوجه التشابه التي تسوقها الدّراسة بين الأزمة الراهنة المترتّبة عن انتشار جائحة "كورونا" وبين "الكساد الكبير"، التغيّرات المتوقّعة في النّظام الاقتصادي العالمي؛ لأن هذه الأخيرة دفعت العالم إلى تغيير الطّريقة التي كانت تتعامل بها الدّول مع اقتصادياتها، وأعادت النّظر في "الدّور الاقتصادي للدّولة"، فكان التعافي عبر عودة الدولة بقوّة إلى النّشاط الاقتصادي، وهو ما صيغ في إطار ما سمّته الولايات المتّحدة "الصّفقة الجديدة". ومن المرتقب، حَسَبَ المصدر ذاته، أن تدفع الأزمة الرّاهنة إلى "إنهاء العمل بالكثير من القواعد التي سادت طوال الفترات الماضية"، علما أنّ "الجديد هذه المرة" هو أن التغيير لن يكتفي بإعادة صياغة العلاقات الاقتصادية بين الدّول وآليات تسييرها، بل سيدفع أيضا نحو دور اقتصادي أكبر للدّولة، وهو ما دفع صندوق النّقد الدّولي إلى اقتراح "تدخّل الدّولة بإجراءات تضمن استمرار عمل القطاعات الضّرورية، مثل: خدمات الرّعاية الصحية، وإنتاج الغذاء وتوزيعه"، كما اقترح أن تقدّم الحكومات دعما استثنائيا للشّركات الخاصّة، بما في ذلك دعم الأجور، مع وضع شروط ملائمة لذلك. هذه الأزمة دفعت إذا صندوق النّقد الدولي إلى اقتراح حلول تتناقض تماما مع قناعاته وسياسة عمله و"تعكس تغيّرا جوهريا في طريقة تفكيره"، وفق دراسة "مركز المستقبل"، مثلما يبدو في رؤيته أنّه "يمكن تصوّر إقامة شركات قابضة كبيرة مملوكة للدّولة، أو توسيع القائم منها لتستحوذ على الشّركات الخاصّة المعسرة، مثلما حدث في الولاياتالمتحدة وأوروبا أثناء الكساد الكبير". وتضغط الأزمة الراهنة بشكل متزامن على الموازنات العامّة لجميع دول العالم، ففي وقت تجد نفسها مطالبة بإغلاق الكثير من الأنشطة الاقتصادية، والحدّ من حركة السّكّان، تطالَب بمزيد من الإنفاق لمعالجة الخلل العميق في الدّورة الاقتصادية الناتج عن الإغلاق، وتأمين احتياجات قطاع الرعاية الصحية، مع مواجهتها تراجعا غير مسبوق في الإيرادات. ومن تداعيات هذه الأزمة أيضا توقّف أنشطة القطاع الخاصّ الذي يحرم الحكومات من معظم إيراداتها من الضّرائب على الأرباح، وحرمانها من معظم إيراداتها من الضّرائب على الدّخل بفعل تسريح العمّال أو منحهم إجازات غير مدفوعة الأجر، إضافة إلى التراجع الكبير في تحويلات العاملين في الخارج التي تعتبرها بعض الدول مصدرا مهمّا للإيرادات في موازناتِها، وحرمان اقتصاديات العديد من الدّول من الإيرادات السياحية، والرسوم المحصّلة من هذا القطاع، بعد توقّف حركة السياحة العالَميّة. وتشدّد الدراسة على أنّه من الممكن أن تضطرّ الدول إلى مواجهة هذه الأزمة منفردة دون انتظار مساعدةِ دول أخرى، ثم تسجّل أنّ "الدول الفقيرة لن تتمكّن من تجاوزها بمفردها"، ولاسيما بسبب معاناتها من فجوات تمويلية محلية، ما سيجبرها على الاقتراض لمواجهة تبعات "كورونا"؛ وهو ما أعلن صندوق النقد الدولي في مطلع شهر أبريل الجاري أنّ خمسا وثمانين دولة قد طلبته بالفعل، علما أنّ "هذا العدد مرشّح للزّيادة كلّما استمرّت الأزمة"، و"الأموال التي تمتلكها مؤسّسات الإقراض الدّولي الرئيسية غير كافية لمساعدة جميع الدّول النّامية في مواجهة "كورونا"، بقصور يبلغ 1.43 تريليون دولار". ولا يمكن القطع، وفق الدّراسة نفسها، بأن بعض الدول المحتاجة للقروض لن تواجه شبح الإفلاس والانهيار المالي في خضمّ مواجهتها للأزمة؛ لأنّ حدودها وعمقها المستقبلي ليس معلوما. ويضيف المصدر: "استمرار الأزمة لفترة طويلة، وزيادة انتشار الفيروس، والمتوفّين به، سيدفع إلى إعلان العديد من الدّول الفقيرة إفلاسها، وفي مقدّمتها دول إفريقيا جنوب الصحراء". وتضيف الدراسة أنّ العديد من البلدان الأخرى ليست لديها مساحة مالية لزيادة الإنفاق الصحي أو حماية مواطنيها من الصدمة الاقتصادية، ولا تستطيع الوصول إلى أسواق التمويل الدولية، مثل تلك التي تعيش حالات حرب، من قبيل: اليمن وسوريا وليبيا، ودول ضعيفة القدرات المالية مثل لبنان، ودول فقيرة ذات كتل سكانية كبيرة، مثل: بنغلاديش، وباكستان، وبعض الدول الإفريقية، ودول آسيا الوسطى، ومنطقة آسيا والباسفيك، إضافة إلى إيران التي تعيش عزلة منذ سنوات بسبب العقوبات الأمريكية. ويعني استمرار الأزمة، حَسَب المصدر نفسه، اتّساعا لدائرة الخطر، وضغطَا على موازنات دول أخرى ذات اقتصاديات كبيرة، مثل: الهند، والبرازيل، والمكسيك، وإندونيسيا، وبعض دول الشرق الأوسط؛ بل وقد يعمّ الانهيار المالي والاقتصادي في تلك الظّروف قارات بأكملها، مثل القارة الإفريقية التي قد لا تنجو منها إلا دول محدودة. وأمام هذه "الأخطار" المتوقّعة، لا تبدو للباحث علي صلاح "سهولة تحقيق" حلّ منظّمة الأمم المتّحدة المطروح، الذي دعا فيه صندوق النقد إلى زيادة الاعتمادات المالية المخصّصة لدعم الدّول خلال الأزمة عبر توفير تريليون دولار إضافي من خلال حقوق السحب الخاصّة؛ لأن الأمر معقّد، ويحتاج وقتا طويلا حتى توافق عليه حكومات الدول الأعضاء بالصّندوق، فضلا عن أنّ عدم كبر مخصّصات الدول الفقيرة من حقوق السحب، وزيادة عدد الدول التي تحتاج مساعدة الصّندوق، يفقد هذا الخيار أهميته، حتى ولو تمّ. وترجّح الدراسة أن تكون هذه المعطيات دافع صندوق النقد والبنك الدّوليين إلى إصدار بيان مشترك يطلب من الدّائنين تخفيف أعباء الديون عن البلدان الأشدّ فقرا، عبر تعليق سداد أقساطها، للمساعدة في تلبية احتياجات سيولتها الفورية للتصدّي لتحديات انتشار الفيروس، وإتاحة الوقت اللازم للمؤسّسات الدولية لتقييم تأثير الأزمة والاحتياجات التمويلية لكلّ بلد منها، دون أن يستجاب لهذا إلى حدود الآن، ما يعقّد أوضاع المالية العامّة للدّول الفقيرة. وذكرت الدراسة أنّ منظمة العمل الدولية حذّرت من أنّ التبعات الاقتصادية لجائحة كورونا تهدّد، في السيناريو الأسوأ، بفقدان نحو 25 مليون شخص وظائفهم حول العالم؛ إضافة إلى أنّ استمرار الأزمة الحالية لفترة طويلة قد يعني أن يضاف مليونان وثمانمائة ألف فقير جديد إلى عدد فقراء العالم. وفي ما يتعلّق بالصّناعات والأنشطة الاقتصادية، تطبّق الأزمة الراهنة بشكل حرفي "انتقاء طبيعيا"، بتغييرها قواعد اللعب في كلّ صناعة، بجمع الشركات الكبرى أفضل الأصول في كلّ صناعة أو نشاط، وتخلّيها عن الأقلّ قيمة، ما يعني أنّه بعد مرور الأزمة سيكون هناك "عدد أقلّ، وأكثر قوّة من الشّركات"، في أنشطة على رأسها قطاع السفر والسياحة، ثم قطاع النّفط. ومع تقييد الأزمة الراهنة حركة المستهلكين، وحدّها من قدرتهم على الوصول إلى الأسواق، والاعتماد أساسا على الأنشطة التي تعتمد على التّواصل عن بعد عبر الإنترنت، تتوقّع الدراسة أن تؤدّي الأزمة الراهنة إلى "تخفيف القيود على الأنشطة التجارية والاقتصادية عبر تلك الوسائط، ما سيساعد شيئا فشيئا على تحول حياة البشر إلى 'الافتراضية'". وتتيح الظّروف الراهنة، حَسَبَ المصدر ذاته، فرصة صعود الأنشطة الاقتصادية التي تعتمد أساسا على شبكة الأنترنيت كوسيلة للوصول إلى المستهلك، وهو ما يضع قطاع الاتصال والشركات المقدّمة لخدمات الإنترنت في مقدّمة الأنشطة الاقتصادية المرشّحة لحدوث طفرة في حجم أنشطتها، بفعل إيقاف السفر بسبب حالة العزلة والتباعد الاجتماعي للبشر عبر العالم، وكون الإنترنت ملاذا أخيرا للمعزولين محليا وعالميا، للاتّصال، والعمل، والترفيه. وقد تكون التغييرات الناتجة عن الأزمة الراهنة، حسب هذه الدراسة، قد أتت لتبقى؛ ما يعني أنّ ما يحدث الآن سيكون بداية لتغيير كبير في أساليب حياة البشر، ولاسيما في ما يتعلّق بالعمل والتعليم عن بعد؛ فقد تتحوّل الكثير من الشركات، حتى بعد نهاية الأزمة، إلى العمل عن بعد بشكل دائم، وقد تتيح فرصة لظهور مؤسّسات أعمال جديدة في التعليم الإلكتروني، ومنتجي تكنولوجيا جدد. ومن أكبر الرابحين من "الجائحة"، وفق الدراسة ذاتها، شركات الترفيه الإلكتروني، وخدمات التلفزيون عبر الإنترنت، مثل "نيتفليكس" التي صارت الوجهة الأساسية للملايين من أجل التسلية والترويح عن النّفس، خلال العزلة العالمية الجبرية غير المسبوقة، والتي كانت طوق نجاتها بعد تخلّفها شبه الدائم، بفعل اشتداد المنافسة، عن مؤشّر "ستاندرد آند بورز 500" لمدّة عامين. في الآن نفسه، تسجّل دراسة "مركز المستقبل" أنّ صناعة الترفيه التقليدية وعلى رأسها السينما تشهد "حالة من الانهيار"، بعد الاضطرار إلى غلق قاعاتها تفاديا لانتشار الفيروس؛ مع العلم أن الفترة الراهنة ستمكّن صناعة الترفيه الإلكتروني من الاستحواذ الكامل على "سوق الترفيه"، بجعل اعتماد المستخدمين عليها أعلى بكثير ممّا كان عليه في بداية الأزمة، وهو ما يدفع هذا العمل البحثي إلى ترجيح "عدم تمكّن صناعة الترفيه التقليدي من استرداد مكانتها السابقة من جديد، في ظلّ انخفاض تكلفة الترفيه الإلكتروني، وتنوعه، وسهولة الوصول إليه، واستمراره".