لعل انتشار جائحة كورونا عبر العالم، اليوم، سيمثل تشكيلا جديدا للخارطة العلمية والسياسية والاقتصادية الدولية، كما سيمثل قراءة جيو-سياسية جديدة للصراع المعرفي مستقبلا. إنها رسالة صارخة تدعونا للتأمل في البنية الفكرية والقيمية والإعلامية التي نحتكم إليها. بما في ذلك مراجعة موجة التفاهة التي حاصرتنا بأطنابها منذ باتت وسائل التواصل الاجتماعي في متناول الجميع. إنها فرصة ودعوة أيضا لإعادة ترتيب الأوراق مجددا، خاصة وقد وصلت هذه الجائحة إلى بلادنا، التي اتخذت احتياطات وقائية تجلت في الحجر الصحي، والدفع في اتجاه محاصرة الوباء بشكل حثيث. إنها رسالة نقول من خلالها : أوقفوا العبث، أوقفوا سيل التضبيع الذي نخر الإيقاع الحقيقي للوجود الإنساني.. أوهمومكم أن ما يصنع إنسانا هي المسابقات الغنائية المتخمة وتحذلق الكلام وتزويقه الساذج والكوميديا السطحية والتشجيع المرضي لكرة القدم حتى النخاع.. أوقفوا العبث، الآن وقد صدمنا حتى الدهشة بما يلف أعناقنا في ظل جائحة هزمت عتاة المدعين للتقدم وللسيطرة على الوضع. وجدنا أنفسنا وجها لوجه أمام مصيرنا الإنساني، نجابهه بكل أشكال التطبيب والعلم والبحث والحماية والمسؤولية، وقد كانت لنا فرص لتأهيل المعرفة، لكن سياسيينا المبجلين بنعم "التطاوس" قفزوا قفزة هوائية في الفراغ، وركبوا موجة لا تحيد عن العناد.. فضل سياسيونا إقبار التعليم والصحة باصطفافهم ضد الرفع من ميزانيتيهما، وتنامى إلى السطح فقرنا المدقع في العطف على الثقافة وجوديا وإعلاميا، حتى أصبحت ''التفاهة'' والإنتاجات الهادمة للقيم لا تفارق مشهدنا الإعلامي البئيس صوتا وصورة (مع بعض الاستثناءات القليلة)، في حين طُمس الجابري وطه عبد الرحمن وزفزاف وشكري وغلاب وغيرهم –إعلاميا-، وهم مغيبون من أعتاب المشهد السمعي البصري الذي فتح أبوابه أمام صناع الفرجة التضبيعية إلى درجة الإسهال.. أين اختفت كل تلك الأصوات التي أخذت أحجام البالونات والمناطيد؟ وكأن الأمر طبيعي جدا عندما ينكمش العروي والجابري وابن بطوطة والناصري واللعبي والمنجرة في مشهدنا الوجودي، وكأن الأمر طبيعي أن يعمر الدار غير أهلها، وأهلها الحقيقيون هم صناع الفكر والثقافة من باحثين ومتخصصين أكاديميين في شتى القطاعات المعرفية والإنتاجية وهم صناع الحضارة التي تجعلنا مستمرين في الوجود.. نقولها بصوت مسموع: لسنا إقصائيين، لسنا ضد أحد، ولكنه المنطق الأنطولوجي الذي تتمسح بتلاببيه الأولويات قبل الكماليات.. أوقفوا العبث الآن رجاء، لسنا في خضم جلد الذات ولكنها الحقيقة التي صدمتنا.. فعالم اليوم منغلق على ذاته، كل يواجه مصيره المحتوم دون التفكير في الآخر.. حتى أوربا يكاد عقدها الحديدي ''المقدس'' ينفرط بعدما وقع في إيطاليا وإسبانيا، وتصاعدت الأنانية المُرّة، أنانية السوق والرأسمالية المتوحشة التي لم تقم وزنا للإنسان، بقدر ما سعت للحفاظ على توزناتها الماكرو-اقتصادية.. الآن وفقط، صدمنا للمرة الثانية بضرورة تأهيل ذواتنا، وإصلاح أعطابنا وتأهيل سفينتنا للنجاة.. نحن لسنا ضد الفن والكرة والكوميديا وكل مباهج الحياة، ولكننا ضد تحويلها إلى شغل شاغل للإنسان بشكل مرضي إيديولوجي.. نحن مع الفن والرياضة الهادفة، ومع إعطاء كل ذي حق حقه.. نواجه الحقيقة بالحقيقة وليس بالكلام الفارغ الذي لم ينفعنا في شيء الآن.. عدنا إلى ذواتنا، وتقلصت أحجام صناع التفاهة الذين حولتهم بطريقة هوليودية إلى مشاهير وصناع حياة، وهم الآن مثلنا ومثل بقية البشر أناس عاديون يتطلعون إلى العلماء لإيجاد لقاح أو مصل مضاد للكورونا الذي وضع كل واحد في حجمه.. رجع الصدى للتواجد في الساحات، وطفت إلى السطح أدوار الفاعلين الحقيقيين في المجتمع من الطبيب إلى الممرض والمدرس وحارس الأمن والدركي والجندي والصحفي والفلاح وعامل النظافة، وكل الذين يواجهون الجائحة الآن في الجبهات الأمامية والخلفية.. أوقفوا العبث رجاء، تمعنوا في علقم الحقيقة، لا نطلب شيئا، غير إعادة ترتيب الأوراق وإعطاء الأولويات حجمها النفعي: قطاع صحي مؤهل ومدرسة عمومية وطنية ومنتجة ومشتل إجرائي للبحث العلمي والطاقات الفكرية.. فكروا بطريقة براغماتية هذه المرة على الأقل، فكروا بمنطق النهوض بعد الجائحة التي ضربتنا ولم تلحق بنا ما ألحقته بجيراننا..