وبما أننا أصدقاء، فإنه حتما سيظهر في مرآتي جميلا وأنيقا، وينسج على غير منوال !! من الواضح إذا أن المشكلة في المرآة وليس في الواقف أمامها، وإلا فلو كانت المرآة أَصْقَل لبدا أَفْتَن !!! اِلتقيتُ خالد العسري لأول مرة ذات مساء خريفيّ من عام 2002 في بيت أحد أصدقائنا المشتركين في مدينة القصر الكبير، فتشابك الحديثُ بيننا حول قضايا المعرفة وهموم الثقافة، فعلمتُ حينها ولم يكن الأمر يحتاج إلى كبير عناء أنني أمام إنسان صاحب شخصية حرة ومستقلة في كل شيء، وعلمت أيضا من بين أشياء أخرى كثيرة أن صاحبي الجديد قد طلّق تخصصّه الجامعيّ السابق، وهو اللغة العربية وآدابها، ودشّن طريقا جديدا شاغله الفكر السياسي، إسلاميا كان أو غربيا. وعندما علم أنني كنت يومها منشغلا بعوالم التراجم والمناقب والسير والفهارس، خاصة الصوفية منها، سارع إلى إبداء ما اعتبره نصيحة بضرورة ترك هذا المجال المعرفي والتخصص فيما ينفع الأمة: تفسيرا وتغييرا، والاكتفاء بالاطلاع على تلك العوالم من باب المشاركة. طالت السنوات بعد ذلك دون أن تتاح لنا فرصة لتعَهُّد تلك الجلسة اليتيمة وتنميتِها، إلى أن أهداني يوم الأحد 08 يناير 2008 كتابه الأول الموسوم ب"الشورى المغيبة: الشورى بين نصوص الوحي ومسارات التاريخ"، وقد كتبَ إليّ قائلا:"إلى أخي العزيز المهادي، أرجو أن تكون كلمات الكتاب حرثا مقبولا عندك، وأن ينفعني الله بصالح دعائك. تقديري كبير لأفكارك التي أنتظر أن تُثمرَ ورقات تبقى صدقة جارية، فإنما هو اقرأ وارق، واكتب وابق .. حياك الله". كتب ذلك بعد أن ناقشتُه مطولا في طروحات الكتاب ونتائجه، وفرح كثيرا بما اختلفنا حوله أكثر مما اشتركنا فيه. ومما أثارني يومها وكان ذلك ذكاء منه أنه اتَّكأ في كلّ كتابه تقريبا: منهجا ومضمونا، على مرجعية متينة اسمها عبد السلام ياسين، لأنه يعتبره أستاذه، دون أن يحيل عليه مطلقا، لأنه وعى جيدا أن القارئ المغربي بالخصوص يسحب موقفَه السياسي من الرجل على أفكاره، ويتموقف منها دون أن يهتم بالاطلاع عليها ابتداء. أما ما أثارني ثانيا فالأسلوب الذي ناقش به قضية متشعبة: لقد فعل ذلك بطريقة الكبار. جلسنا بعد ذلك كثيرا وتصاحبنا طويلا، إلى أن صدر له سنة 2011 كتابا تحت عنوان "التربية والشورى: الأسئلة الحرجة"، وكان شاغله يدور حول مسألتيْ التربية والشورى داخل الحركة الإسلامية، والغاية منه طرح سؤال: ما العمل حتى يتخرّج من هذه المدرسة أهل الربانية والإحسان الموقنون بأن الاستبداد لا يمكن أن يستقيم مع الشرع الحنيف، وأنه وإن اتخذ أشكالا وألوانا فلا بد من مدافعته وممانعته حتى ولو تدثر بدثار التربية؟ ولا يحصل ذلك حسب يقينه إلا بجعل الشورى فقها تنظيميا مشاعا في الصف، لا يتنازل عنها بأي حال من الأحوال. لقد شكر في بداية كتابه مجموعة من أصدقائه وقدّرهم وكنت أحدَهم لأنه اعتبر المحاورات الكثيرة التي أجراها معهم سببا رئيسيا في خروج الكتاب إلى الوجود. وقد كان محقا بالفعل في شكره هذا، ذلك أننا وبعد قراءته وجدناه زاخرا جدا بالأجواء والنقاشات والأفكار التي كانت تتطارح في لقاءاتنا وجلساتنا. حينها فقط عرفنا قيمة ذلك الكناش الصغير أو الورقة التي كان يخرجها بين الفينة والأخرى ليسجل فيها فكرة أو اقتراحا أو تقديرا حتى لا يشرد. لقد كان ينَمّي أفكاره ويشذّبها بهذه الطريقة الذكية، وكنا فرحين بحيلته وفخورين بها ! عندما انتهيت من قراءة كتابه هذا، أحسست بحق أنني كدتُ أمتلئ فَهْمًا حول "معضلة التربية والشورى في تصور الإسلاميين"، خاصة أولئك الذين يولون المسألة التربوية الأولوية القصوى. وعبّرتُ له عن إحساسي هذا في حينه عندما صرّحتُ له بنوع من الوثوقية العالية قائلا: إن كتابه هذا، في موضوعه، لم يُكتب مثله منذ حسن البنا. وقد سجل شهادتي هذه بتواضع كبير واحتفى بها أيما احتفاء. ووُضِع الكتابُ في الرفوف، ولم يحتفي به أحد. وكان الأجدر بأصدقائه المقربين أن يُبَشّروا به وبطروحاته المتقدمة، إلى أن صدر سنة 2019 كتاب "في الحاجة إلى صحبة رجل" للأستاذ محمد العربي أبو حزم، الذي ناقش مسألة الصحبة وعلاقتها بالجماعة، وقدم تقديراته في المسألة، ليقف المهتمون فيما يشبه الاكتشاف على سبق صديقي لطرح هذه المعضلة للنقاش، خاصة في فصله السادس المعنون ب"بين منطقي التربية والشورى". ومن بركات هذا الكتاب عليّ أنّي عرفتُ أن الدكتور طه عبر الرحمن في طبعته الأولى لكتابه "العمل الديني وتجديد العقل" كان قد صدّره بإهداء جميل، وبتقديم أجمل يحكي فيه عن "تجربته الروحية" في كنف الشيخ حمزة البودشيشي. وقد حذفهما في الطبعة الثانية. فبحثت حتى وجدت، وكتبتُ عن كل هذا مقالا تحت عنوان: "طه عبد الرحمن والتجربة الدينية الحية ... شيء من السيرة الذاتية" ونشرته في موقع هيسبريس الالكتروني يوم 14 شتنبر2014. وعلمتُ أيضا أن فريد الأنصاري رحمه الله أثناء مجادلاته لأهل التصوف في كتابه الشهير "التوحيد والوساطة في التربية الدعوية" استدعى قصيدة لعز الدين بن عبد السلام ليعزز بها موقفه الرافض لكل ما له علاقة بالتصوف وأدبياته. ولكنه اقتطع منها أبياتا تضرب معتقده في الصميم. وكنتُ أنا ذلك الرجل الذي نبّه صديقنا خالد إلى أن فريد الأنصاري قد وقع له في آخر أيامه تحولات في نظرته للصوفية والصحبة وفقه التربية والسلوك. وقد أشار إلى ذلك في الهامش الثاني من الصفحة 67، ووسمه ب"الأستاذ العالم". في سنة 2011، وبالضبط أثناء "حراك 20 فبراير"، حانت فرصته التي كثيرا ما انتظرها، وقد اقتنصها باقتدار يُغبط عليه. ففي هذه السنة انفجر "الربيع العربي"، وكانت كل حواسه متفتحة إلى حدودها القصوى، بما فيها السادسة منها، فراقب بعين الخبير ما يجري ويدور، وشارك بالقوة والفعل ومن موقع المسؤولية، في مجريات الحراك الشعبي في مدينة طنجة، ونظّر ووجّه وواجه واستشرف... وحزن أيضا عندما تباطأ قطار الحراك إن لم نقل توقف يوم خرجت جماعة العدل والإحسان منه. حزنَ لأن بعض الشركاء لم يكونوا للأسف رجالا بحجم الموقف. وقد نشر حينئذ تدوينة طويلة عبارة عن "رسالة إلى مناضلي 20 فبراير بطنجة" أنقلها هنا كاملة لقيمتها التاريخية أولا، ولكونها تُعَدُّ بحق مؤشرا لقياس عقلية الرجل وأخلاقه وطريقته في التعامل مع الشركاء السياسيين مهما اختلفت مشاربهم: (( بعد بلاغ جماعة العدل والإحسان بالانسحاب من حركة 20 فبراير، وما يمكن أن يفهم من موقفها السلبي من الشركاء الذين ناضلت إلى جنبهم في الحركة، فإنني أود أن أنوه وأشير شهادة لله وأمام التاريخ أننا وجدنا في طنجة شبابا وشابات وتنظيمات في المستوى، سعة صدر وفكر، وإيمانا بالاختلاف، واستعداد للبذل والتضحية، وإن كان هناك مَن شكل الاستثناء فإني أظن أن معدنه كان أصيلا، وهو ما كان يمكن تجاوزه لولا تداعيات الأزمة الخانقة التي تعيشها الحركة. اليوم بعد انسحاب العدل والإحسان لا نريد أن نشمت في المناضلين، ونقول هذه الساحة فأخرجوا الجماهير. آلاف الجماهير التي خرجت في مسيرات الحركة التاريخية إنما خرجت لأنها حقيقة آمنت بأهداف الحركة، وقد كنا جميعا شركاء في ذلك، فإن انسحبنا في طنجة فإنما الأمر انضباط لقرارات التنظيم الذي ننتمي إليه، والذي يبني قراره بما يتجمع لديه من معطيات على المستوى الوطني، وقد كانت خلاصاته غير مشجعة على مستوى العديد من المواقع، وقد كانت طنجة العالية الاستثناء: استثناء الجماهيرية، وبناء الفعل المشترك المنسجم، ولكن قاعدة الانسحاب الذي أكده بلاغ الجماعة لم يترك لأي موقع أن يتخذ موقف الاستثناء. إلى كل مناضلي 20 فبراير، رحلة العدل والإحسان في الحركة انتهت، ولم ينته نضالها ولا جهادها، وكلمة صادقة أنقلها إليكم جميعا: كان لي الشرف أن أقف بينكم أرفع حنجرتي مطالبا بمستقبل أفضل لشعبنا، فتحياتي الخالصة للاشتراكي الموحد، والنهج، والطليعة، والحركة من أجل الأمة، وجمعية المعطلين، والجمعية المغربية لحقوق الإنسان... وإلى كل الشباب والشابات وعموم الجماهير المناضلة بطنجة. ورجائي الأخير أن لا يشمت أي من أبناء وبنات العدل والإحسان برفاق نضال دام عشرة أشهر، وتقاسمنا معه هراوات المخزن، رجائي يا أبناء العدل والإحسان أن لا تسقطوا خلا صلات بلاغ الجماعة على مناضلي طنجة لأنهم كانوا ببساطة أرقى مستوى. خالد العسري عضو سابق بالتنسيقية الداعمة لحركة 20 فبراير بطنجة صباح الاثنين 20 دجنبر 2011 )) في أجواء "الربيع العربي" إذا سييبرز ذلك الذي تخلى عن وعي عن تخصصه القديم، أقصد عالم الأدب والنقد والشعر والرواية، لصالح الفكر والاجتماع والسياسة، فطفح فيه وبدون مبالغة ذلك المثقف الذي يوصف عادة ب"العضوي"؛ فكتب مقالات، وشارك في ندوات ونقاشات، وساهم في كتبٍ جماعية، وقُبلت مساهماتُه في مجلات مُحكّمة ومنتديات عالمية، وفاز بجائزة أكاديمية معتبرة. بل وأصبح الكثير من الناس في مناسبات سياسية كثيرة ينتظرون تدويناته على الأنترنيت باعتبارها ميزانا وبوصلة ومفتاحا.. وأنْعِمْ به من شرف !! وقد أصبح الآن متخصصا في "كيفية تدبير المراحل الانتقالية"، فله فيها قول واقتراح. أقول هذا الكلام الذي قد يبدو مبالغة عند البعض لأني قرأتُ مقالاته المنشورة والمسودة، وكذا كتابه الذي ينتظر، واطلعتُ على شبكة علاقاته، وأحسستُ أنّي أمام قامة فكرية حقيقية. هذا الحضور والحراك والفعل يجعل الإنسان عادة ينسى أمورا أخرى قد تكون أهم، وهذا ما لم يغب عن بال صاحبي، ذلك أنه وظيفيا انتقل من "معلم" في السلك الابتدائي، يُشاغب عليه "العيال" لعدم فهمهم طلاسم بدل الاشتمال والألف اللينة واحتمالات المنادى وإعراب المستثنى وكلمات شاذة في إملائها، إلى "أستاذ" لمادة الفلسفة يشرح مفاهيم الغير والحق والواجب والحرية والهوية والوجود، ويشتبك مع كيركيغارد وديكارت وباسكال وهيكل وكانط وراسل. لكن دون أن يُحسّ وأنا معه بطعمٍ لتلك الدروس الجافة الجامدة، باهتة الروح، والتي تُكرّْه التلاميذ والأساتذة كليْهما في "الفلسفة" لأن المنهجية يا صاحبي عوجاء وفاسدة. أما على المستوى المسار الأكاديمي فإنه سيدافع يوم 20 ماي 2017 عن أطروحته لنيل الدكتوراه في القانون العام والتي اشتغل فيها على مسألة "السلطة التشريعية على ضوء دستور 2011: المستجدات الدستورية وتأثيراتها في الوظيفة التمثيلية"، وقد بادر بنشرها معدلة سنة 2019 تحت عنوان "تحت السلطة: أزمة التمثيلية الانتخابية في المغرب" عندما أُخبر من قبل أكثر من مصدر بأن بعض الباحثين يسْتَقون منها دون أن يهتم أحد بالإحالة عليه. الكتاب يقرأه بسلاسة حتى غير المختص، لأنه كُتب بأسلوب مختلف تماما عن تلك "المؤلفات" التي تُكتب بلغة الدراسات القانونية الجافة، فأسلوب الكتاب كما كان يقول النقاد القداما فيه رواء وماء، ومردّ ذلك نعود مرة أخرى إلى مسألة التخصص راجع إلى أن صديقي خالد كان منفتحا ذات سنوات على عوالم الشعر والقصة والرواية وفن الترسل والنقد، وله في بعضها مشاركة. لقد ناقش أزمة التمثيلية الانتخابية في المغرب بعُدّة الأكاديمي المتخصص ومنهجيته، موحيا بأن بناء طروحاته بعيدة عن انتمائه الأيديولوجي والسياسي، ولكن في الخلفية كان كل ذلك بارزا واضحا، لأنه تعلم دائما ألا يدّعي "الموضوعية" و"الحيادية". فهو مثقف دائم التحيّز، بل ويحتفي بتحيّزاته. والذي يشك في هذا الأمر تكفيه إطلالة قصيرة على صفحته في الفايسبوك، أو البحث عن اسمه في ذاكرة "غوغل" ليَتَعَرَّفَه شاهدا وحاضرا في كل قضايا الوطن والأمة الساخنة انطلاقا من مرجعية فكرية لا يكاد يخفيها. ملاحظتي الوحيدة التي يمكن أن أسجلها عليه كصديق أنه جرّاء قوة شخصيته، ومن فرط ثقته بما يحمله من أفكار تتسم بالجدّة والأصالة، فإنه يتحمس لها أكثر من اللازم، مما يجعله في بعض الأحيان لا يتنازل عنها مطلقا، بل ويعمل بشتى الطرق الجدلية والحوارية على إقناعك بها .. وهذا طبيعي في أي "مفكر مناضل"، فلا لوم هناك !!