قد لا يعرف الكثير من المغاربة أنّ بلدهم كان يتوفّر على أكبر مستشفى لعلاج الأمراض الصدرية والتنفسية في القارة الإفريقية، منذ سنوات الأربعينيات من القرن الماضي، شُيّد في قرية بنصميم، نواحي مدينة إفران، وعُولج به آلاف المرضى. اليوم يقف كل مَن ساقته أقدامه إلى المكان الذي بني فيه هذا المستشفى الضخم، ذو الطوابق السبعة، متحسّرا على ما آل إليه؛ فبعد أن أُغلق، لأسباب غير معروفة، مطلع السبعينيات من القرن الماضي، تعرّض للنهب والتخريب ولمْ يتبقَّ منه سوى جدرانه الإسمنتية الصلبة. حكاية مستشفى فريد لعبَت الصدفة دورا حاسما في بناء مستشفى بنصميم. فبعد سنوات من دخول الحماية الفرنسية إلى المغرب، زارَ مواطن فرنسي المملكة وكان يعاني من مرض صدري لم يجد له علاجا في فرنسا، وقادته الأقدار إلى قرية بنصميم، وبعد أن مكث فيها مدّة أحسّ بتحّسن حالته ثم شُفي لاحقا. بلغت قصّة الطبيب الفرنسي موريس بوجان، الذي شُفي من مرضه المزمن بفضل المناخ السائد في جبال الأطلس التي تحفّ قرية بنصميم، حسب الرواية المتداولة بين سكان القرية، إلى مَسمع مسؤولي الإدارة الفرنسية، فقرّروا، بعد إجراء أبحاث، تشييد مستشفى في المنطقة لعلاج الأمراض التنفسية. بيْن ذلك الزمن القديم والزمن الحالي، تاريخ حافل بالفخر صنعه مستشفى بنصميم، امتدّ إلى غاية سنة 1973، حيث انهار كل شيء فجأة، بعد أن هجر الفرنسيون المستشفى عام 1965 وسلّموه إلى المغاربة، الذين أغلقوه ثمانَ سنوات بعد ذلك، ليتحوّل إلى أطلال تدمي القلب. توجد على الشبكة العنكبوتية صوَر كثيرة بالأبيض والأسود موثِّقةُ لأمجاد مستشفى بنصميم، حيث يظهر المرضى راقدين على أسرّة نظيفة تحفّهم الممرضات والأجهزة الطبية من كل مكان، وسط قاعات فسيحة وأنيقة لا تتوفر على مثيل لها كثير من المستشفيات المغربية في الوقت الراهن. تقع بناية مستشفى بنصميم الضخمة وسَط فضاء طبيعي خلّاب، على بُعد ثمانية كيلومترات من مدينة أزرو، فحيثما ولّيت وجهك تتراءى لك الجبال المكسوّة بأشجار الأرز المخضرّة، ينساب منها إلى الرئتين نسيم عليل، أما الآذان فلا يتناهى إليها صوتٌ آخر غير أصوات العصافير وخرير جداول المياه التي تخترق الجبال. وسط هذا الفضاء الطبيعي المشوب بالهدوء والسكينة كان آلاف المغاربة الوافدين من مختلف مناطق المغرب، وكذا الأجانب، يعالَجون داخل مستشفى بنصميم، من مرض السُّل ومن مختلف الأمراض الصدرية، إلى غاية مطلع العقد السابع من القرن الماضي، حيث انقلب حال المستشفى رأسا على عقب. مَعْلمة منهوبة لا أحد يعرف سبب إقدام السلطات الصحية على إغلاق مستشفى بنصميم.. سألْنا أشخاصا من المنطقة التقيناهم في عين المكان؛ لكنْ لا جواب، غيرَ أنّ الجميع مُجمع على أنّ المستشفى تعرّض لنهب حقيقي، حيثُ سُرق منه كل ما هو صالح للسرقة، وما ليس صالحا تعرّض للكسر كزجاج النوافذ. "لا نعرف أين كانت السلطات، ولماذا غضّت البصر عن أعمال التخريب والسرقة التي تعرض لها المستشفى؟"، يتساءل مواطن يقطن في دوار قريب من مستشفى بنصميم، مضيفا بأسفٍ بادٍ على مُحيّاه: "كان عليهم، على الأقل، أن يجهزوه بأبواب متينة لمنع الدخول إليه". الإجراء الوحيد، الذي اتُّخذ من أجل حماية مستشفى بنصميم، هو وضع بضعة أغصان من الأشجار على دُرْجِ بابه الخلفي، لمنع الدخول إليه؛ لكنّ زوار المكان يدخلون بمنتهى اليُسْر، عبر فُتحة مُشرعة وسط الباب، تقود إلى باحةٍ فسيحة ومنها إلى مختلف أجنة وطوابق المستشفى. ترْكُ المجال مفتوحا للولوج إلى مستشفى بنصميم لم يُفْض فقط إلى نهب تجهيزاته الطبية، التي كان بالإمكان أن تكون اليوم تُحفا حتى لو لم تعُد فعّالة؛ بل إنّ المكان أصبح بمثابة بؤرَةِ خطر. فقبل أشهر، ولج إليه طلبة من جامعة الأخوين، وتعرّضت طالبة للرشق من مجهول بقطعة حجر على مستوى الرأس، حسب رواية استقتْها هسبريس من عين المكان. كان مستشفى بنصميم يضمّ تجهيزات طبيّة متطورة، قياسا بالزمن الذي أنشيء فيه. عندما تُطلّ من فُتحة باب هذا المستشفى الضخم بطوابقه السبعة يظهر لك ما تبقى من هذه التجهيزات، التي ربما لم يُسعف ثقل وزنها اللصوصَ الذين نهبوا المستشفى في سرقتها. تُطلّ أجنحة وغرف المستشفى الواسعة على الجبال المتدثّرة بأشجار الأرْز، وعندما تسطع الشمس في الصباح تنفذ أشعتها الذهبية إلى عمْق الغرف المتوفرة على شرفات فسيحة، وداخل المستشفى ثمّة مرافقُ كثيرة، كالحمامات وقاعات الأنشطة وغيرها. قد لا يصدّق المرء أنّ مستشفى بنصميم يتوفر على قاعات للترفيه؛ فالفرنسيون لم يعتمدوا فقط على العلاج العادي، القائم على الأدوية، بل اعتمدوا أيضا على العلاج النفسي والروحي، إذ يتوفر المستشفى على قاعة كبيرة للسينما والمسرح، لا تزال كراسيها صامدة في مكانها. وبالنسبة للجانب الروحي، هناك قاعات للصلاة للمسلمين، وكنيسة للنصارى، حوَّل المغاربة الذين يدخلون إلى المستشفى جدرانها إلى فضاء للتعبير، كتابة، عن مكبوتاتهم. ثمّة عبارة بليغة نقشها الفرنسيون بخطّ عريض على جدار أحد الممرات، فحواها: "لا تهمنا ديانة المريض، بل يهمنا نوع المرض الذي يعاني منه". لماذا أغلق مشفى بنصميم؟ بالرغم من الأهمّية التي يكتسيها مستشفى بنصميم ورمزيته التاريخية، فإنّ وزارة الصحة والجهات المَعنية لمْ تلْتفت إلى النداءات الكثيرة التي ظلت تنادي بإعادة الاعتبار إلى هذه المَعلمة، التي لا تزال جُدرانها الصلبة صامدة، وكان من الممكن أن تتحوّل، على الأقل، إلى مَزار سياحي. منذ سنوات، أنشأ ناشطون مدنيون صفحة على موقع "فيسبوك"، تحت عنوان "Pour l'ouverture de l'hôpital de Ben Smim le grand édifice oublié"، ( من أجل فتح مستشفى بنصميم البناية الكبيرة المنسية). وتقول المشرفة على الصفحة، وهي مغربية مقيمة بالخارج لهسبريس، "أنا درت هاد الصفحة حيت أنا بنت أزرو ومرّضني داك المنظر ديال سبيطار سنين وحتا حاجة متبدلات". وتضيف المتحدثة: "السبيطار كان مجهز بكولشي، حتى قاعة السينما، وبالإمكان المسؤولين إيرْدّوه أي حاجة، ممكن إيكون جامعة، أو فندق أو أي شيء تستفيد منه المنطقة". حسب الإفادات التي حصلت عليها هسبريس، فإنّ مستشفى بنصميم سيتحوّل إلى منتجع سياحي، حيث يُرتقب أن يتمّ تحويله إلى فندق ضخم، بأموال مستثمرين خليجيّين، وفيما لا يُعرف متى سيتجسد هذا الطموح على أرض الواقع، فإنّ السكان القاطنين في المناطق المجاورة يتساءلون: لماذا أغلق مستشفى بنصميم أصلا؟. وفيما لا يُعرف متى سيتم تحويل هذه المعلمة التاريخية إلى فندق، فإنّ أرشيفها، الذي كان من المفترض أن يُصان، لكونه يضمّ وثائق قديمة، عبارة عن سجلّات المرضى، وغيرها من الوثائق المشتّتة داخل وحتى خارج المستشفى، يتعرّض للضياع. أما البنايات الخارجية التي كانت مساكنَ لأطر المستشفى، من أطباء وإداريين، فقد تحوّلت إلى خِرب تُستغل لإيواء الحيوانات، راسمة مشهدا كاريكاتوريا غريبا، يجسّد مغربا مضتْ عليه سبعة عقود كان حينها يتوفر على أكبر مستشفى في القارة الإفريقية، ومغربٍ جديد ما زالت كثير من مناطقه تفتقر إلى مؤسسات استشفائية.