أصبح الإنتقاد سلوكا منتشرا بشكل كبير في مجتمعاتنا، و المقصود هنا هو الإنتقاد السلبي وليس الانتقاد الموضوعي والنصيحة ذات القصد السليم. وقد أدمن على هذا السلوك العديد من أفراد المجتمع من مختلف الفئات والأعمار، همهم الوحيد هو إنتقاد الآخر في كل ما يصدر عنه من قول أو فعل أو أي تصرف سواء بشكل عام أو خاص دون تمييز. يطال هذا الانتقاد كل ما يهم الفرد من الأمور البسيطة كتصرفاته اليومية العادية ونوعية الملابس التي يرتديها والطعام الذي يتناوله والرياضة التي يزاولها، وصولا إلى أمور مصيرية كالمسار الدراسي الذي يتبعه، والعمل الذي يزاوله، والزوج/الزوجة الذي اختاره كشريك للحياة، فتتحول الجلسات العائلية ولقاءات الأصدقاء والأحاديث الخاصة إلى مناسبة لإنتقاد العمل الذي يقوم به (فلان) مهما كان شرعيا وقانونيا، وسبب اختياره تلك الفتاة بالضبط قصد الزواج بها، و التمحيص في أسباب الطلاق إن حصل، وكذا التساؤل حول الوضعية المادية لبعض الأشخاص سواء حول أسباب فقرهم أو كيفية حصولهم على المال إن كانوا ميسورين، بل وضع فرضيات سيئة لتبرير ذلك بدلا عنهم. ليصل الأمر إلى انتقاد مظهرهم وحالتهم الصحية ومستواهم الثقافي وطريقة حديثهم. هذا الأمر –لإنتشاره - أصبح مدعاة لتخوف غالبية أفراد المجتمع من أن يطالهم الانتقاد لكل ما سيصدر عنهم من تصرفات أو ما سيقدمون عليهم من أمور تهم حاضرهم أو مستقبلهم. فوبيا الإنتقاد إن الفرد منا أصبحت لديه قناعة تامة بأن كل ما سيقدم عليه من عمل بسيط كان أو مصيريا سيكون حتما عرضة للإنتقاد، فإما عليه أن يعد التبرير اللازم لذلك أو يترك الأمر بشكل نهائي، نتحدث هنا عن ما يمكن أن نسميه: فوبيا الإنتقاد. أيُّ سلوك ستقدم عليه سيجعلك أمام نيران الانتقاد. من الناحية السوسيولوجية يمكن أن نحصر أسباب هذا النوع من الانتقاد في: الفراغ، الغيرة، الإحساس بالدونية و الغرور. فالشخص المتفرغ الذي لا ينشغل بأي أمر مفيد طيلة اليوم سيجد حتما الوقت الكافي لإنتقاد الناس، والغيرة نار تجر صاحبها إلى انتقاد شخص معين يغار منه. والإحساس بالدونية تضطر الشخص إلى انتقاد الآخرين للتغطية على عيوبه. و الغرور إحساس بالعظمة الكاذبة تجعل المغرور يحط من قدر من يصادفهم حتى لا يصلوا إليه، فيظل هو عظيما وكاملا حسب اعتقاده. و هكذا يتحول المنتقدون بفعل ذلك إلى علماء اجتماع وفقهاء دين، وإلى أطباء ومحامين وخبراء في كافة مناحي الحياة، فيمنحون الحق لأنفسهم في انتقاد الجميع. الأكيد أن هذا النوع من الانتقاد هو انتقاد سلبي وهدام لا يصدر إلا عن: ( فاشلين – مغرورين – وأشخاص ينتابهم الإحساس بالدونية)، وإن كان ذلك السلوك يمنحهم نوعا من الإحساس المؤقت بالراحة النفسية والارتياح الكاذب، فإن له نتائج وخيمة تصيبهم أولا بإفساد علاقتهم بالناس واستمرار التغطية على فشلهم، ومن جهة أخرى يساهم في انتشار (فوبيا الانتقاد) أكثر مما هي منتشرة أصلا، فتجعل البعض يحجم عن القيام بأعمال جيدة تهم حياته الشخصية أو المجتمعية فيؤجلها أو يتخلى عنها نهائيا خشية الانتقاد. فالمنشغلون دوما بالإنتقاد لا يريحون ولا يستريحون. ما السبيل إذن؟ لا بديل عن تجاهل هؤلاء المنتقدين، فالمقتنع باستقامة تصرفاته وسلامة تفكيره لا تهمه الانتقادات المجانية ولا الآراء السلبية، أما المنتقدون فعليهم إعادة النظر في تصرفاتهم وذلك بتعويد أنفسهم على النقاش الهادئ الرصين بدل الانتقاد المجاني، وإسداء النصح بشكل لبق، والتركيز على المشكل وليس على صاحبه، حتى يمكن تجنب الإساءة إليه والمس بكرامته، أما عدا ذلك فمن الأفضل الانشغال بأمر مفيد للنفس أو للمجتمع أثناء أوقات الفراغ. إن عدم تعود الشخص على النقد الذاتي وإعادة النظر في علاقته بالآخرين ومسار حياته بشكل عام، سيسقطه لا محالة في فخ الإحساس بالكمال ثم الشغف بانتقاد الآخرين، وبالتالي تناسل ظهور الواعظين والناصحين وانتشار عقلية الوصاية، فمن الأجدى أن ننشغل بعيوبنا ونترك ما لا يعنينا في الآخرين، وإن كان من النصيحة بد فلتكن بنية النصيحة الهادفة وبأسلوب لبق بعيدا عن الخوض في أعراض الناس. * باحث في السلوك الاجتماعي.