عندما انتهت معركة بوڭافر وأحصت كل "فخدة" قتلاها، تراشقت الشاعرات في ما بينهن وتبادلن الرسائل المتناقضة بخصوص هذه الملحمة الكبيرة؛ فقالت امرأة وهي تسخر من الذين شاركوا في مقاومة فرنسا "أَرّاوْ نَايْتْ بُوڭافر أمِي تْلَاقْ تْبَغّا.. أُورْيَادْ رُورِينْ أَرُومِيْ وَلادْ زُڭزنْ أُولِّي"، بمعنى أن مقاومي بوڭافر يجوز لهم أن يدخنوا التبغ (للتخفيف على أنفسهم) فهم لم يستطيعوا طرد المستعمر، وأضاعوا قطعانهم هباءً، في إشارة إلى حجم الخسائر التي تكبدوها في الأرواح والمال، مع ذلك استعمرت فرنسا المنطقة..لترد عليها شاعرة أخرى تدافع عن خيار المقاومة بعد أن فقدت كل شيء وعادت حية من المعركة: "أَرّاوْ نَايْتْ بُوڭافر أمِي يْلَاقْ الجاوي.. يْلاَقَاسن وُودي يصمّيطْن أَتْنْدْ أفينْ.. نْكّين سّْبلغْ أُولّينْو إ النّبي والهادي.. كمِّينْ تكْسْبت أُولِّينم إِ بِپيرْ د بُولاَ"، أي ما معناه: "مقاومو بوڭافر يستحقون أن يُستقبلوا بالبُخُور (الجاوي) وأن يُقدّم لهم السمن احتفاءً. أنا تصدقتُ بأغنامي في سبيل الله والنبي، وأنت ربّيت قطعانك من أجل بيپير وبولا (النطق المحلي لاسم قبطانين فرنسيين كانا في بوڭافر). تُسمي بعض المصادر الفرنسية معركة بوڭافر التي امتدت من 13 فبراير إلى 26 مارس 1933 "معركة الملاذ الأخير لأيت عطا"، فالخناق ضاق أكثر على الذين يرفضون التواجد الفرنسي في المنطقة، والعدو ليس هو الجندي الفرنسي فقط، بل الكثير من أبناء الجلدة الذين انضموا إلى الحلف الفرنسي. ولم يكن من مكان يبدو للمقاومين آمنا غير صاغرو، معقل أجدادهم، فتضاريسه وعرة تساعد على الاحتماء والمواجهة من عل. قبل معركة بوڭافر وإن بدأت فرنسا بدراسة المنطقة عبر جواسيسها الذين جابوا المنطقة واستقروا بها لمعرفة عقلية الناس، نمط عيشهم، علاقاتهم، عداواتهم والتكتلات القبلية الموجودة والمنحلة، وسائر المعلومات التي تم تجمعيها قبل إطلاق أول رصاصة، فقد بدأ الهجوم الفرنسي على المنطقة تدريجيا. واستطاع الجيش الفرنسي أن يحتل أڭذز ويستقر في مزڭيطة في يناير 1931، مع الاستعداد لاستعمار زاكورة ابتداءً من أواخر دجنبر 1931 والسيطرة على جبل زاكورة بين يناير ومارس 1932، ثم احتلال منعطف درعة في نونبر 1932، واحتلال تازارين وتاغبالت بين يناير ونونبر 1932. كانت هذه آخر المناطق في الجنوب الشرقي التي لم تخضع للسلطات الفرنسية، ولم يتبق سوى صاغرو، لذلك أعلنت الأسر التي ترفض التواجد الفرنسي النزوح بشكل جماعي نحو جبل بوڭافر، والأسر التي استطاعت أن تغادر قراها نحوه مبكرا أخذت معها كل ممتلكاتها، من أغنام وحمير وبغال وأثاث وحبوب وغير ذلك، ومن لم يسعفه الوقت للمغادرة حتى الأيام الأخيرة، فقد فرّ رفقة أولاده أو بمفرده ليلا نحو الجبل، مخافة أن يوشي به الخاضعون من الذين يرحبون بالتواجد الفرنسي، خاصة مع انتشار الأخبار القادمة من الأماكن التي يحكمها الڭلاوي بأن رجاله الذين تنفذ بهم فرنسا أعمالها في المنطقة يقومون بردم الناس في "لوح التابوت"، وأن من لا ينفذ ما يطلبونه سوف ينفذون فيه أساليب تعذيبية غير مسبوقة، ومنها وضعه وسط لوح وسط التراب المبلل ودقه في إحدى حيطان تلك القصبات التي كان يبنيها القياد بأعمال السخرة في المنطقة. قبل أن ينطلق تبادل النار في جبل بوڭافر يوم 13 فبراير بين المقاومين وجنود المستعمر الفرنسي، كانت في محيط صاغرو مواجهات عنيفة، إذ يصف القبطان جورج سپيلمان قبل المعركة بأيام حركة المقاومة في منطقة تازارين بقوله: "تكاثرت الحوادث وعصابات الأعداء، إذ إن الهُجوم الذي تعرضت له سرية مغربية من السباهي يوم 20 يناير 1933 في ملال قام به أكثر من 300 محارب جد مسلح"؛ ثم يُضيف وهو الذي كان يقود حرْكة تحمل اسم درعة في معركة بوڭافر: "ولولا التدخل السريع لأتباعنا من أيت سليلو، وأيت أوزين، وأيت مسعود لما استطاعت فرقتنا النجاة من هذا الهجوم الذي فقدنا فيه 5 من السبايهية، و10 من أتباعنا". من يقاتل من؟ رغم أن العتاد الحربي فرنسي، وفرنسا هي التي تقود معارك الاحتلال التي تسميها "التهدئة"، فإن عددا كبيرا من أفراد جيشها في معركة بوڭافر لم يكونوا سوى من المغاربة الذين أرغمت بعضهم على القتال في صفوفها، وبعضهم اختار ذلك كعمل ينال منه أجرا ماديا، وبعضهم قاتل تحت الراية الفرنسية بعد تزويده بالسلاح لتصفية حساباته الشخصية أو القبلية، كثأر قديم أو دين لا يمكن تسديده سوى بالبارود. وبحسب التقارير الفرنسية فإن الجيش الفرنسي في بوڭافر تكون من تجمع غربي وتجمع شرقي، الغربي يقوده الجنرال كاترو، ويضم "حرْكات" يترأسها العقيد شاردون، تتضمن حرْكة تاغصا بقيادة القبطان باريو. وتضمن هذه الحركة 500 مقاتل مغربي ينحدرون من نواحي بومالن و700 مقاتل مغربي ينحدرون من قلعة مڭونة؛ كما تضم الفرقة 14 من الڭوم، يقودها الملازم روش، والفرقة 39 من الڭوم يقودها الملازم دوبيسيس. ويضم التجمع الغربي في بوڭافر كذلك حرْكة اسمها "تين إوركان"، يقودها القبطان دولاكروا، تضم 600 مغربي من نواحي ورزازات، و400 مغربي من إمغران، وحركة احتياطية تضم 300 مقاتل من ڭلاوة. مجمع شرقي أما بخصوص المجمع الشرقي فقد كان تحت قيادة الجنيرال جيرو، ويتشكل من حركة درعة بقيادة القبطان جورج سبيلمان، صاحب المؤلفات الكثيرة عن المغرب، وتضم حركته 800 مقاتل جاء بهم من درعة، و200 شخص جاء بهم من تازارين. كما توجد في التجمع نفسه حرْكة الرڭ، وتضم 600 رجل مغربي ينحدرون من وادي إميضر وسافلة تودغى و200 من إمغران، وفرقتين من الڭوم 10 و49؛ إلى جانب سريتن من الفرسان وسرية محمولة على الشاحنات تنتمي إلى الفيلق الأول والثاني والثالث من اللفيف الأجنبي، وسريتين تابعتين للفيلق الثامن من السباهي الجزائري، ثم 5 فرق مختلطة من الڭوم، و4 طائرات؛ وغير ذلك من المعدات والأسلحة التي سفكت بها فرنسا دم المقاومين وحولت العديد من الأسر وأغنامها إلى أشلاء. مواجهة الأعمام في كل بلدة وقرية يوجد موالون لفرنسا زمن الاستعمار، كما يوجد مقاومون لتواجدها بالمنطقة. وفي بوڭافر أيضا دفعت السياسة التي انتهجتها القيادة العسكرية الفرنسية إلى التسبب في مواجهة مباشرة أحيانا بين أقرباء من نفس القبيلة أو العائلة الكبيرة. أغلب مقاومي معركة بوڭافر من قبيلة أيت عطا، كما أن الزعامة كانت للعطاويين، من أمثال عسو وباسلام وموحى ولحسن أبوعلي، أوخجادج، أوتاسرحانت، وغيرهم؛ لكن شارك فيها أيضا أيت مرغاد والشرفاء وإقبليين من ذوي البشرة السمراء وغيرهم، حسب الوثائق الفرنسية التي كانت تحصي عدد القتلى كل يوم وتدون أسماءهم أو قبائلهم على الأقل. في مقابل ذلك كان هناك 650 فردا من قبائل أيت عطا يحاربون تحت الراية الفرنسية؛ وعن هؤلاء كتب قائد حركة درعة في هذه المعركة الشهيرة جورج سپيلمان في كتابه "أيت عطا الصحراء وتهدئة درعة العليا"، وهو يصف مجهودهم في قتل إخوانهم أيت عطا في بوڭافر: "لقد كان عملهم مرضيا بصفة عامة أثناء المعارك، أما أيت سليلو وأيت أوزين وأيت أونير درعة، وأيت إسفول وأيت بوكنيفين فقد تفوقوا تفوقا كبيرا. أما أيت حسو فقد توانوا، لكن لم يكن ذلك مزعجا، غير أنه لوحظ مرارا أنهم نزعوا الرصاصات من بنادقهم وحشوها بالورق لما عرفوا إخوانهم الثوار أمامهم، ولم يرض قائد الحركة بهذا الاكتشاف. وهل يجوز أن نؤاخذ على ذلك قوما يعلمون حق العلم أنهم يقاتلون إخوانهم وأعمامهم أو أبناء أعمامهم".