"42 يوما من قصف النهار والليل القادم من السماء والأرض. 42 يوما من الحرمان والسهاد وقلة الماء. 42 يوما من الهجومات الضخمة الفاشلة، ومن القصف الجزئي التدريجي من طرف قواتنا التي احتلت جزءًا من الجبل، حيث لا يفارق الساهرون أسلحتهم ليل نهار، وحيث يُعَوَّضون بالنساء إذا ما وقع خلل، 42 يوما في النهاية مرت مع ماشية مفزوعة تصيح لحد الموت، وبين جثث متحللة مع عدم إمكانية إرواء الماشية الجافلة. لنقس قوة التألم الحادة، وكذا رحمة رؤسائنا وجنودنا ترافقهم، ولا يستطيعون القيام بأي شيء مُجدٍ لوضع حد لذلك، وهم يترقبون الاستسلام في آخر الوقت. آه لَو وُجد شاعر بين هؤلاء الأمازيغ، وهم يتصدون كأبطال للدفاع عن جبال بوغافر ".. يكتب هنري بوردو، عضو الأكاديمية الفرنسية الذي زار موقع المعركة. الفرنسي صاحب رواية "الابن الضال" وغيرها، بحكم عدم معرفته للغة الأمازيغية لا يعرف أن آلاف الأشعار المأساوية نُظمت عن بشاعة "بوغافر" أثناء المعركة وبعدها، فالشعر كان وسيلة لنقل الأخبار في مجتمع بدوي لا يكتب. وما زالت لحد الساعة تنتقل تواترا من جيل لآخر، في غياب للكتابات المغربية المعاصرة للمعركة، فالمقاتلون كانوا أميّين والفقهاء الملمون بالقراءة والكتابة لم يُدَوّنوا هذه الأحداث، عكس الفرنسيين الذين لم يمنعهم وضع اليد على الزناد من تدوين مشاهداتهم اليومية، وانطباعاتهم عن المعركة وشعورهم في الجبل، كالطبيب فيال ومختلف النقباء، مثل جورج سپيلمان والجنرالات.. فبراير 1933.. معركة الملاذ الأخير لم تخض فرنسا حرب "بوغافر" بجنودها لوحدها، بل جعلت في المقدمة جنود المرتزقة السنغاليين والمغاربة الذين استقدمتهم من مناطق عديدة، أو ما كان يسميه مجاهدو بوغافر ب"إِيرُومِينْ إمزّان" أي "الفرنسيون الصغار"، رغم حديثهم بالعربية أو الأمازيغية. وكان اليوم الأول والأيام التي تلته فادحا من حيث الخسائر الفرنسية، فالقتلى يعدون بالمئات، لكن الجيش الفرنسي كان يُعدّ ضمن الأموات فقط الضباط والجنرالات، ولا يأخذ بعين الاعتبار جيش المرتزقة من حطب الحرب، فكتب النقيب جورج سبيلمان في اليوم الأول "لقد نُظمت هجومات عديدة ضد هذه القلعة الطبيعية من طرف قوات آتية من جهتي الشرق والغرب، وكلها مُنيت بالفشل بطريقة مأساوية، وفقدنا أثناءها أربعة ضباط من القوات التابعة لمراكش وستة ضباط من التخوم المغربية الجزائرية ". 8000 آلاف جندي تحت قيادة الجنرال كاترو تتربص ببوغافر من الغرب، و 9000 جندي تحت قيادة الجنرال "جيرو" من الشرق و 44 طائرة حربية وعدد كبير من المدفعيات وفي أعلى جبال بوغافر يوجد رجال بنسائهم وأطفالهم متحصنون بالجبل يرون لأول مرة طائرة تمطرهم بالقذائف. بينما عددهم غير مضبوط ويقدر ب 7000 شخص بينهم أطفال وشيوخ ونساء. لكن السلطات الفرنسية أحصت يوم استسلامهم في 26 مارس 2949 شخصا من بينهم 465 مقاتلا والفرق بين العددين قُتل في المعركة في الهجومات الفرنسية التي تقصف التجمعات النسائية وآبار الماء.. ورغم توقيع معاهدة الهدنة بين عسّو أوباسلام، نيابة عن قبائل أيت عطا، والسلطات الفرنسية فقد استطاعوا فرض شروط مهمة على المستعمر الفرنسي، منها "عدم تجريد القبائل من أسلحتهم إلا عن طوع، ثم عدم حضور نساء أيت عطا للاحتفالات التي يقيمها الكلاوي ورجال المخزن ،ورفض نفوذ الكلاوي على المنطقة، وأن تضرب فرنسا صفحا على ما مضى في الحرب بين الطرفين وغير ذلك.." الطريق إلى بوغافر.. هناك ارتباط وجداني لحفدة المقاومين وسكان المنطقة بمعركة بوغافر، فهي تمثل بالنسبة إليهم معركة فخر ومجد. وما يزال من يداوم على زيارة موقع المعركة وصعود قمم تلك الجبال المنيعة. "كنت أزور هذا المكان في الثمانينات لأترحم على أجدادي، حينها كنت ما أزال أعثر هنا على شَعر النساء اللواتي استشهدن وعظام الموتى والقذائف التي لم تنفجر متناثرة في هذه الشعاب" يقول شيخ من قبيلة إلمشان لهسبريس. واعتادت جمعيات المجتمع المدني تنظيم زيارات جماعية إلى مواقع المعركة، كجمعية بوغافر للتنمية بألنيف، التي تحتفي شهر فبراير كل سنة بمجاهدي هذه المعركة الكبيرة، وزيارة أهم الأماكن المعروفة في تلك الواقعة. كمكان توقيع الهدنة، ومكان وفاة القبطان بورنازيل، مكان إسقاط الطائرة الفرنسية، البئر التي كان المجاهدون يشربون منها، وغير ذلك من المواقع التاريخية. تبعد جبال بوغافر عن ورزازات ب 220 كيلومتر، ويمكن الوصول إليها عن طريق جماعة إكنيون التي تبعد عن موقع المعركة ب 40 كيلومتر، أو عن طريق تنغير في اتجاه ألنيف. وقطع 80 كيلومتر تقريبا من المنعرجات غير المعبّدة، والمرور عبر دواوير كثيرة غير كثيفة السكان بمنازل طينية متناثرة. إحياء ذاكرة بوغافر "يستطيع الزائر الآن أن يصعد بسيارته إلى أعلى الجبل، ويزور المواقع الحقيقية للمعركة، ويبيت ليلته إن شاء في مكان مجهز في أعلى الجبل لاستقبال الزوّار"، هذا ما يؤكده موحى بواركالن، النائب الأول لرئيس جمعية إحياء ذاكرة بوغافر، حيث أكد لهسبريس أن الجمعية "شيدت 24 كيلومتر من طرق "بيست" لفك العزلة، معتمدين على النمط الفرنسي في تشييد الطرق في مثل هذه المسالك الوعرة. والمسلك لا يستفيد منه زوار موقع المعركة فقط، وإنما أيضا أزيد من 5 دواوير ومداشر قريبة من بوغافر". وبنت هذه الجمعية، التي تضم عددا كبيرا من الشخصيات السياسية بالمنطقة ورجال الأعمال، محلاّ أعلى جبل بوغافر، عبارة عن قاعات للمبيت والراحة، ومراحيض حفاظا على نقاء المكان ورونقه، ولخدمة الزوار ممن يفضلون زيارة المكان، والترحم على أرواح شهداء معركة دارت رحاها في هذه الجبال. "ومن برامجها على المدى القريب، تشييد متحف خاص بالمعركة فوق الجبل، والجمعية تعتزم تسخير إمكانياتها الذاتية لرد الاعتبار للمنطقة خاصة الجانب التنموي " يورد نفس المتحدث.. احدى: فرنسا اقتطعت أراض وضمتها للجزائر وقال الدكتور محمد احدى، رئيس شعبة التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن زهر بأكادير، في تصريحات لهسبريس إن "معركة بوغافر تعتبر تتويجا للمعارك الجهادية التي خاضتها القبائل العطاوية في نهاية القرن التاسع عشر، منذ أن بدأت القوات الفرنسية استفزازاتها في مجالات تواجدها بالهوامش الجنوبية الشرقية، حيث اقتُطِعَت أجزاء كبيرة من مراكز نفوذها بتابلبالت وتيميمون وواحات التوات في العمق الجزائري، وكانت هناك اتفاقيات تكافلية بين أيت عطا والمستقرين بهذه المناطق المقتَطعة". وأردف المتحدث بأن "المستعمر الفرنسي عمد إلى تقزيم مواردها التي اعتادت الانتجاع فيها طيلة القرون الماضية"، مبرزا أن "قبائل أيت عطا شكلت عرقلة أمام أطماع الفرنسيين بالمنطقة خصوصا أن الظرفية الدولية آنذاك لا تسمح لهم بالاستعمار المباشر، ولهذا فقد انتظر الفرنسيون نهاية أطوار الحرب العالمية الأولى، وكذا القضاء على شوكة المقاومة الريفية بزعامة محمد عبد الكريم الخطابي سنة 1926، لكي تتفرغ فرنسا إلى ما سمته " مشكلة أيت عطا ". وتابع أستاذ التاريخ بأن فرنسا انبرت لهذه "المعضلة" بجميع وسائل الترغيب والترهيب، بدءًا بتقسيم قبائلها وتجنيد البعض منها، وإذكاء النعرات القبلية، وتوظيف ترسانتها الحربية من طائرات ومعدات ثقيلة، في وجه مجاهدين عُزّل، دفعتهم غيرتهم على عرضهم وموطنهم الأصلي صاغرو، الذي كان يعتبر عاصمة لأكبر اتحادية عرفها المغرب". وزاد احدى "شكلت هذه الكنفدرالية القبلية مصدر فزع للحكم المركزي منذ القرن 17، رغم الحملات العديدة التي يقوم بها المخزن من حين لآخر، مدعّما باتحادية قبلية منافسة "أيت يافلمان"، مشيرا إلى أنه يمكن اعتبار سنة 1933 آخر سنة في عمر اتحادية أيت عطا، لتخضع لأول مرة في تاريخها للمخزن الشريفي الذي تمثله الحماية الفرنسية". وبخصوص تأخر هذه المناطق في مجال التنمية عن الركب، أوضح الدكتور محمد احدى، مترجم "أيت عطا الصحراء وتهدئة درعة العليا"، بأنه "من المفارقات الغريبة أن المناطق التي دخلها المستعمر مبكرا كالدار البيضاء في 1907 مثلا هي التي التحقت بالركب الحضاري، واستفادت من المدارس التي أنشأها المستعمر، وكذا البنية التحتية من موانئ ومصانع ومستشفيات، خلافا للمناطق التي استعصت على المعمّر الفرنسي، حيث بقيت مهمشة بدون طرق ولا إدارات وبنيات تحتية، ومنها منطقة صاغرو، وواد نون التي استبسلت فيها قبائل أيت خباش العطاوية إلى حدود 1934، دون أن يستفيد هؤلاء المقاومون مما استفاد منه غيرهم في مناطق أخرى من امتيازات"، مضيفا أن "التهميش استفحل بعد نصف قرن من الاستقلال، لولا المجهودات الفردية لبعض الجمعيات والأفراد، والتي يبقى مفعولها متواضعا بحكم إمكانياتها المحدودة" وفق تعبير المتحدث.