"هو الحب كذبتنا الصادقة" محمود درويش جاء القطار متأخرا والحب مبكرا. بحر عسلي، نسجت خيوط الشمس أمواجه الخضراء. يناديني تعالي إلي أقف على شطآنه وزخم النظرات يجرح القلب الحافي، لا يقوى على الاقتراب لأنه يخشى الغرق في عدم حب مجهول، ولا يقوى على الابتعاد لأنه يخشى الاحتراق بالمشي على رمل الوحدة اللامتناهي. وما بين موتين محتومين يختار القلب الجريح عينيك حتفه. فأزفه إلى موته المشتهى كما تزف الأم الابن الشهيد، تذرف دموع الفرح الحزين المقطرة بالفخر، بابن قدم روحه قربانا للوطن. وأنت وطني وقلبي شهيدك. أستخونه كما يخون الوطن شهداءه، فيكتب بدمائهم اتفاقيات الاستسلام ويوقعها فوق قبورهم، يغطي غبار الزمان أسماءهم ويعجز الوطن عن تذكرهم لكثرتهم؟ أسيكون قلبي مجرد شهيد آخر تزين به قائمة انجازاتك العاطفية وشاهدا جديدا في مقبرة ضحاياك لتنادي ضفاف عينيك ضحية أخرى تعالي إلي؟ ولكن ربما كنت لي وطنا رحيما فجعلت اسمي عنوانا لشوارع قلبك، وتاريخ لقاءنا عيدا، ربما أعلنت ضحكتي نشيدك الوطني ووجهي رمز الفرح. نفذ زخم النظرات إلى أعماقي ورأى الروح مرتجفة، فاستحال الموج إلى نسمة ريح خائفة نادت: لنلتقي تحت شجرة غذاء الآلهة. جلسنا غريبين في موعد رتب تفاصيله القدر، حديثنا صمت محمل بالكلام الخجول، تطل الكلمات المترددة من شفتيك فتتسرب همسا: لنتذوق من ثمار شجرة غذاء الآلهة. فتتشابه بداية الحب ببداية الخلق وقد ورثنا الوقوع في خطيئة الاقتراب من الشجرة المحرمة من آبائنا الأولين وأهملنا تحذيرات آبائنا الحاليين بالابتعاد عن شجرة الحب. ربما كانت شجرة ادم وحواء شجرة كاكاو مثل شجرتنا، ثمارها حلوة كبدايات الحب ومرة كنهاياته وربما ادم هو من أغوى حواء بقطف ثمارها ليعيشا نشوة السعادة الحلوة لحظة ومرارة جحيم المعاناة قرونا. فالإنسان صانع معاناته وابن عذابه وحزنه. شربنا نخب حبنا المر الحلو كثمرة الكاكاو، طردنا من جنات الوحدة ونزلنا إلى ارض حبنا. التقينا في الأول من نيسان وبدا وكأن الطبيعة بأسرها تحتفل بحبنا وكأنها أزهرت ليلكا وجوريا فرحا، لنعطر بهم رسائل حبنا الطويلة التي ستشبه جميع رسائل العاشقين سأصف وحشة السماء دون وجهك وستخبرني أن أشعة الشمس باهتة دون ابتسامتي سنبالغ في سرد تفاصيل يومنا وسنتشاجر من يحب الآخر أكثر. احمرت حقول النعمان خجلا من بوح نظراتنا غنت البلابل كل أغاني الحب التي كنا سنؤلفها إذا امتلكنا المزيد من الشجاعة والوقت. بينما تستقبل الطبيعة ربيعها، ظننت أنني أستقبل ربيع حياتي لكنك كنت كذبة نيسان. هو الحب كذبتنا الصادقة هو الحب يأتي ويذهب كالبرق والصاعقة يباغتك على نحو غرة جميل كربيع مسالم ترفل في حقوله وتزهر حياتك تفاصيل خضراء لكنه سرعان ما يغادر أرضك ويحصد سنابله ويتركك وحيدا في أرض وحدتك الجرداء من كل شيء إلا من ذكرياته ويسلمك إلى صقيع منفى الفراق. في المنفى، لون القهوة كئيب وطعمها حار ومقيت لا تزيده قطع السكر إلا مرارة. وكما حاول المصريون القدامى فك لعنة النيل بإلقاء حسناوات مصر في زرقته أحاول إغراء مرارة القهوة بمطر القطع السكرية أرميها واحدة تلو الأخرى فتسحبها أمواج البخار الغاضب إلى غياهب ذلك البحر الأسود لتخط بها قدري على صفحة قعر الفنجان البيضاء قدر مر مسطور بحبر أبيض حلو على صفحة بيضاء قدر لا يقرأ يا لسخرية القدر. في المنفى، مسار عود جبران مضطرب بالشوق ونوتاته سكرى بالحنين وبالغياب. وريتا مارسيل خليفة أكثر حزنا وشجنا، والذي يعرف ريتا ينحني ويصلي لإله في عيون عسلية اه يا درويش لقد كانت خيبتنا واحدة صلينا في محراب إله لا يبالي، لا يبالي بأفئدتنا المشتعلة شموعا في معبده وبقلوبنا التي تدق ناقوسا في كنيسته إله يصلبنا بصمته. إله يجزي صلوات حبنا بالهجر والغياب. منذ رحيلك وأنا أكره نيسان، أخاف الربيع، أتشاءم من القطار المتأخر وأتحاشى النظر في عيون الناس لأني أخشى الغرق في بحر عينيك ثانية. الفصل الأول: بداية الحب "على هذه الأرض ما يستحق الحياة تردد أبريل، بداية الحب..." محمود درويش