صورة... وتشنج موجة رهيبة هادرة تتقدّم بثبات، من المؤكد - الذي لا ذرّة شك معه - أنها ستطوي، بل قل ستجتث كل ما ستجده أمامها، وتطوّح به بعيدا إلى مهاوي العدم، وفي الأسفل "يسارا" نقرأ بلون برتقالي جملة/عنوانا - ستصبح كلمتها الوسطى فيما بعد عرضة لسوء فهم كبير وشطط في التأويل - جملة تُلوّحُ بشكل رشيق ب"حوار مع الفضلاء الديمقراطيين". تلك هي واجهة غلاف كتاب للأستاذ عبد السلام ياسين أثار حينها زوبعة هائلة جدا جدا جدا جدا... - حتى ينقطع النفس - من النقد والنقض الأيديولوجيين، بل وصل الأمر إلى حد السب والشتم من قبل "صغار" السياسيين والإيديولوجيين والحزبيين، بينما كان الرد الوحيد الذي صرّح به "الكبار" هو: الصمت التام المطبق. وكان جوابا بليغا في حد ذاته. جوابٌ جعل الأستاذ ياسين يخصص كتابه "حوار الماضي والمستقبل" (1997) ليذكّرَ هؤلاء الكبار، وعلى رأسهم عبد الرحمن اليوسفي والفقيه البصري وعبد الله إبراهيم وبنسعيد أيت يدر، بتاريخهم الشخصي والجَمْعي، الذي يتَّسمُ - كلاهما - بالتدين والتشبث بالإسلام والكفاح، ويهمسَ في أذنهم - ولكن بصوت سمعناه - أنِ احْذروا من ربط مصيركم ومستقبلكم بأجندة "المخزن" الماكر وتدبيره. فلماذا يا ترى تم التعامل مع هذا الكتاب ودعوتِه بتلك الطريقة المتشنجة جدا: حطّا أو صمتا، والتي لا يمكن أبدا أن يعرف حجمها إلا من عاش اللحظة بتفاصيلها. مقالي هذا يحكي - كما ترون - قصة كتاب أثار الهلع في نفوس من كان يقصد التحاور معهم، إلى درجة أن جعل سوء فهمهم لخطابه ُيسَرّعون من خطواتهم، والتي تحولت إلى هرولة، وهم في طريقهم إلى الارتماء في "أحضان السلطة" خوفا مما اعتقدوه رمضاء حارقة..! الزمن السياسي للكتابة والنشر: موسم جني ثمار فاسد الكتاب ألّف سنة 1993، وصدر سنة 1994، وهذا من الناحية السياسية يعني الشيء الكثير: عالميا: تغيّرُ الأجواء العالمية بالتوجُّه نحو نظام عالمي جديد متسم بالقطبية الواحدة وقد دُشّن بحرب الخليج الثانية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي راعية الفكر اليساري وحاضنة أحزابه، ومن ثم تحوُّل هذه الأخيرة إلى "معانقة" مفاهيم المُنتصر، مثل: الديمقراطية وحقوق الإنسان. عربيا: الانهزام التام والكلي للمفكرين والمثقفين الحاملين للمشروع "القومي العربي" بعد دخول صدام حسين للكويت، وما ترتب عليه من تفتت لما تبقى من الصوت العربي. وطنيا: بداية الإعداد لمرحلة ما بعد الحسن الثاني، وذلك بالعمل الحثيث على إيجاد توافقات سياسية مع معارضة الأمس حتى تضمن انتقالا سلسا للسلطة، وقد تبدى ذلك في: - العفو عن المعتقلين. (بينما تم إطلاق سراح السرفاتي قُبيل ذلك 1991 ولكن تم إبعاده إلى فرنسا، ليعود سنة 1999). - تأسيس منتدى الحقيقة والإنصاف، والذي عملت جلساته على محاولة معرفة ما وقع خلال سنوات الرصاص، ومن ثم تعويض المتضررين من هولها. - إغلاق معتقل تزممارت الرهيب. - العمل على طي ملف المعارضين السياسيين المنفيين خارج البلاد، وعلى رأسهم الفقيه البصري، الذي عاد سنة 1996. - فتح نقاش حول دستور جديد. - استقطاب عناصر كثيرة من اليسار إلى مؤسسات السلطة. لقد بعث الأستاذ ياسين بهذه الرسالة/الكتاب إلى كل من يهمه أمر مستقبل المغرب من قدماء السياسيين والحزبيين، محملا إياهم المسؤولية التاريخية جراء ما يتمتعون به من رمزية وماض نضالي مجيد يخولهم أن يكون لصوتهم صدا واعتبار، ولكن الذي حصل أنهم ذهبوا يبحثون عن توافقات مع عدو الأمس، تاركين الداعيَ وحده يراقبُ بحزنٍ شديد موسم جني قِطافٍ لمَّا تَنضجْ بعد. صدمة: "طارئٌ" يشترط على "كبار" في هذا الكتاب قلب الأستاذ ياسين المشهد كليا، وبشكل صادم، حيث وضع الديمقراطيين - وبكل ما أوتيَ الهدوءُ من قوّةٍ - وضعَهم هم وتصوراتهم تحت مشرحة النقد والسؤال، في الوقت الذي كانوا يعتبرون أنفسَهم أصحابَ البيت وغيرهم الطّارئون، وهم وحدهم من يمتلكون حقّ الكلمة الفصل في القضايا الرئيسية والحسّاسة في المجتمع، والتي تُعدُّ جزءا لا يتجزأ من سلم التقدم والتأخر، كالديمقراطية والتعليم وحقوق الإنسان. في كتابه هذا عقد فصولا يعالج فيها نفسَ تلك المعضلات التي تجعل الديمقراطيين يُصابون بالقلق، بل قل بالرُّهاب، بمجرد إحساسهم اقترابَ "الإسلاميين" منها. في هذا الكتاب، الذي يناقش المثقفين فيما يعتبرونه "مَقاتِل الأمة ومهالكها"، وفيما يضعون أنفسهم فيه موضع الأستاذية، كان يُنتظر من الأستاذ ياسين أن "يتواضع" ويُبدي تلمذتَه و"تَهافُت"َ ما معه من بضاعة مزجاة في هذه العلوم. ولكن الحاصل أنه أبان عن أصالة معتّقة، أصالة في اللغة، والمصطلح، والأسلوب، والتركيب، والطّرح، وفي الرسالة والمعنى، وهذا هو الأهم بالنسبة إليه. لقد فعل ذلك - وهذا ما لا يمكن أن تخطئه عين القارئ - بنبرة مرتفعة عالية تقترب من استراتيجية الهجوم الكاسح. وهذا أمر لا يمكن أن يُغفرَ له أبدا. الخطاب: الدعوة في السياسة في مقدمة قصيرة لا تتجاوز صفحاتها الست قال الأستاذ ياسين كل شيء يحتاجه طرف مُقبل على حوار مع مخالفين سياسيين وخصوم أيديولوجيين، والملاحظة الأساسية أنه تحدث بنبرة، ربما وصفُها ب "واضحة" غير كاف، فقد كشف لهم عن نيته، وغايته، وخطابه، وأرضية ارتكازه، وتحيزاته، وتخوفاته. وفوق ذلك نبَّه وحذّر واشترط. منذ البداية يحسم في أمرٍ جوهري بالنسبة له، إنه نوع "الخطاب" الذي سيستعمله وهو يناقش تلك المسائل. ولأن "حرفتَه الدعوة" - كما كان يشير دائما - فإنه يؤكد - مثلا - أن "الحديث عن التنمية بلغة مشتركة ومفاهيم مشتركة سرعان ما يمسح لغة الدعوة". لأنه يعتبر العمل على التنمية باب من أبواب الجهاد لنزع رَبْقة التبعية من أعناق الأمة. بينما الحداثويّ يُصرّ ويلحّ ويبالغ في الإلحاح على أن التنمية ينبغي أن تؤخذ بكامل شروطها، وإلا فهو التخلف السرمدي. فهي عنده - أي الحداثويُّ - تقترن بالديمقراطية والعلمانية، وما انفكت عُقدة أوروبا وانفتحت أمامها أبواب التقدم - في نظره - إلا بعد أن طردت الدين من الحياة العامة، وركنته في زاوية قصية مهمشة. بل إن الهدف المُبْتَغى عند البعض منهم، وإن كانوا قلة - تقليدا لغيرهم - هو الإعلانُ النهائي عن "موت الإله"، بل ومسح كل آثاره وبصماته، وبعد ذلك الرفع النهائي لكل ما يمنح هذا العالم معنى و"سحرا" مهما كانت مؤشراته بسيطة. الفضلاء يسيئون فهم "الفضلاء" في الصفحة الأولى وضّح سياق اختياره لكلمة "الفضلاء" في عنوان كتابه، حيث أشار إلى أنها من الألفاظ التي درج العلماء قديما على إطلاقها على الخصماء في الرأي: تقربا وتحببا وإيناسا وتبليغا، فكانوا يقولون - مثلا - الفاضل أبو اقراط. وكأنه كان يعرف مسبقا بأن مخالفيه من السياسيين والحزبيين سيسيئون فهما، ومع ذلك - للأسف - أسيء فهمها، حيث اعتبروها تنقيصا وتنكيتا وإهانة. بينما كان هو في مقام الاعتراف للمثقفين من الطبقة السياسية بما لهم من "فضل علوم، وفضل اهتمام بالشأن العام، وفضل معرفة بما يجري في العالم، وبما يعني حاضر الأمة وتاريخها، وبما يتراءى في آفاق مستقبلها، وبما يتصارع من قوى وما يقترح من أفكار". السؤال العويص: ما الذي يجمعنا؟ بعد ذلك مباشرة وقف عند عويصة العويصات في كل حوار سياسي بين فرقاء متعارضين، وحَسَم بكل وضوح وصرامة في أرضية الحوار التي ستجمع كل الفرقاء السياسيين في هذا البلد، ف "لا ملتقى لنا مع أحد يقول إلا على الإسلام". حسْم إذن وليس اقتراح، مادام أن الجميع، بدون استثناء، يرفع شعار "كلنا مسلمون". هذا الشعار أخذه الأستاذ ياسين من لسان إحدى المشاركات الحزبيات في ندوة كانت جماعة العدل والإحسان قد نظمتها قبيل شهور، وكانت قد أطلقته في وجه الحاضرين من الإسلاميين، تريد أن تبرز من خلاله رفضها التام لما سمّته محاولة الإسلاميين الاستحواذ على الإسلام واحتكار التكلم باسمه، وقد وافقها بعد ذلك - في احتفائية كبيرة دامت أعدادا كثيرة من الجرائد والمجلات - كل الكَتَبة الحزبيين من ديمقراطيين ويسار وغيرهم، وبالغوا في التبشير به ورفعه في وجه كل صوت إسلامي. أخذه الأستاذ كاعتراف من الجميع واتفاقٍ من قِبل الكل بأن "الإسلام هو ما يجمعنا"، ولكن لا يكفي أن نرفع شعارا، بل لابد من تحرير القول في مضمونه حتى لا يتخذه البعض مطية للتجسس على "المخزون النفسي" للجماهير المسلمة، والركوب عليه في الحملات الانتخابية. من أجل ذلك طالبهم بأن يصارحوا الأمة عن "أي إسلام هو إسلامهم" هل هو إسلام الزينة والصلاة في التلفزيون تظاهرا، أم مجرد شعائر تعبدية، أم هو حكم بما أنزل الله، "حُكمٌ تٌطبّق فيه الشورى، ويُختار الحاكم، وتُدار بالشرع شؤون البلاد، وتُراقب الأمة، وتُأمر بالمعروف، وتُنهى عن المنكر، ويُشارك في البناء النزهاء المجاهدون". بين المثقفين والسلطة: اتفاق على إقصاء الإسلاميين بينهما - حسب تصوره - اتفاق على عزل"الشعب عن منبع قوته ومصدر عزته وقوام أصالته وحقيقة هويته"، يشهد ذلك زورا كل خوّار من علماء البلاط بينهما أيضا اتفاق على إقصاء الإسلاميين، ولم لا التطويح بهم في السجون والمعتقلات. من أجل ذلك يشير إلى أن وضع المثقفين المغرّبين وضع حرج في زمن التحرك الإسلامي، ويدعوهم إلى: - ألا يشدوا عربتهم إلى قاطرة السلطة، لأن أمجادهم التاريخية ضد الاستعمار ونضالاتهم ضد السلطة لا يرضيان لهم الارتماء في أحضان هذه السلطة الغاشمة. - أن يعلنوا موقفهم الواضح من المؤامرة العالمية ضد الإسلاميين - ألا يفوتوا هذه الفرصة للقاء مع الإسلاميين، وألا ينتظروا إلى أن يخفق ارتفاع لواءهم في الربوع. حوار وميثاق يشدد الأستاذ ياسين على حتمية جلوس الخصماء للحوار المفضي مع الأيام إلى صياغة ميثاق "على عين الشعب وتحت سمعه وبصره" "وإلا فهي المقاتلة عاجلا أو آجلا"، ولكن شرطه الأول لهذا الميثاق أن يوضح الجميع موقفهم من الإسلام، ويكشفوا عن طبيعة فهمهم لعقائده وشرائعه. وحق الإلحاد أو التحرر كليا من التصور الإسلامي للحياة مكفول لمن أراد، ولكن بشرط واحد، أن يكون واضحا مع الناس ويعلن عن ذلك، ولا ينافق أو يخفي مواقفه خوفا من "انتحار سياسي" مضمون. العنف يولد رد فعل عنيف ثم ينبههم إلى أن استمرار عنف السلطة المسنود من قبل اللائيكية سيولد لا محالة إن لم تراجع الأنظمة سياساتها "عنفا مضادا يدافع عن النفس". ولكن استشرافه للمستقبل يكشف له أن أية حرب أهلية قد تنفجر في البلاد العربية ستنصر بعدها "إرادة الشعب"، لأنه مهما طال تحالف العسكر واللائيكية فإنهم في حاجة دائمة إلى شرعية شعبية ممتنعة. منطلقات الحوار بين "المطلق" و"النسبي" مقالات كثيرة جدا نُشرت في أغلب الجرائد الوطنية وخاصة الحزبية منها، انقسم مضمونها بين: - مُدافعٍ عن الأستاذ وأفكاره، كما فعل مصطفى المعتصم في مقاله المنشور في العدد 23 من جريدة الجسر (يناير 1995). - عارِضٍ لأهم أفكار الكتاب، كما فعل زكي مبارك الذي نشر حلقتين في جريدة الأسبوع الصحفي، (16 و23 دجنبر 1994) وقد ركز على ثلاث نقط: أرضية الحوار ولغته، وبرنامج الإسلاميين، والتغيير هل يكون من فوق أم تحت؟ - مُناقِشٍ لأفكار الكتاب بكل ود واحترام كما الحبيب الفرقاني، الذي نشر أكثر من عشر حلقات في جريدة الاتحاد الاشتراكي. (ماي/يونيو 1995). - ومُهاجِمٍ شرس، وهم الأغلبية، وكان زعيمهم سعيد لكحل، الذي نشر مقالات كثيرة وطويلة، في جريدة "أنوال" خاصة، وقد وصف دعوة ياسين للحوار بشتى أنواعه القذع: حوار "كنس الآخر" / حوار السب والقذف والتجريح/ محاباة الخصوم الحقيقيين (ويقصد السلطة) ومعاداة الديمقراطيين/ الديماغوجية والاستعلاء/ التوعد والتهديد والتكفير والتحقير/ حوار الوهم/ الإسلام أو المقاتلة. وكان الاستثناء الوحيد من الديمقراطيين الذي حاوره حوارا حقيقيا وبنّاءً هو صديقُه القديم محمد شفيق، وهذا ما يؤكده ياسين نفسُه بقوله: "ويزيد من فرحي أنك الديمقراطي الفاضل الوحيد الذي كتب إليّ" لقد بعث له برسالة تحت عنوان"إلى أخ لي في الإسلام" وجعلها بعد ذلك مفتوحة بنشرها في العدد 6 من مجلة "tifawi"(نونبر- دجنبر 1995). ليدخلا من ثَمّ في نقاش حول القضايا التي طُرحت في الكتاب، مثل: الديمقراطية والعقل والعقلانية، والهوية، التعليم، والتنمية، واللغة، والدين، والتاريخ. إلا أن محمد شفيق قَدّر أن يسدَّ باب الحوار لأنه شعر - كما عبّر بالحرف - بأن موازين الحوار بينهما غير مضبوطة، فبينما ينطلق هو من "النسبي" القابل للنقاش، كان الأستاذ ياسين ينطلق من "المطلق".. وقد جمع الأستاذ ياسين نقاشه هذا في كتاب من 300 صفحة وَسَمَهُ ب"حوار مع صديق أمازيغي"، وصدر سنة 1997. وأثار بدوره نقاشا حاميا، هذه المرة في صفوف النشطاء الأمازيغيين. خاتمة: لماذا... وهل؟ لماذا إذن كانت دعوة الأستاذ ياسين ل ّفضلائه" الديمقراطيين بمثابة "قصة موت مُعلن"؟ وهل كان يتوقع فعلا أن يستجيبوا لندائه في زمن سياقاته كلها كانت تشي بغير ذلك؟ أم أن الكتاب نشر في وقته بمنطق دعوي صرف أولا، ثم للإقامة الحجة ثانيا، بينما زمن تنزيل تصوراته مازال لم يأت أوانه بعد؟ وهل "الجماعة"، بعد مرور ست وعشرين سنة من إطلاق هذه الدعوة، ما زالت مُصرّةً على كل ما جاء في هذا الكتاب من "تحيّزات" و"اشتراطات"، أم أن المدافعة السياسية جعلتها تكتشف ربما مداخل أخرى سالكة لمائدة حوار ممتنع لحد الآن؟