إنها الحرب على الإسلام في حدِّ ذاته أمام وضع مأساوي يقضي بتمريغ اسم الإسلام في أوحال التعصب والإرهاب، وبالتالي في تدعيشه كما أبنت في مقالة سالفة، لا نرى للأسف الشديد المنظمات الاسلامية الرسمية تحرك ساكنا ولا وزاراتنا الوصية على القطاعين الديني والثقافي وكذلك قطاع الشؤون الخارجية، ولو برفع ملتمسات إلى المنظمات الدولية المعنية، تدعوها إلى تفعيل مبدأ صيانة ثقافة الاسلام وحضارته من التسيبات اللفظية والتسميات الضالة المضلة، التي تسعى أوساط ولوبيات قوية طاغية إلى نشرها وتسويقها وتطبيع استعمالها وتداولها... اشتكى الرئيس فرنسوى هولاند قبيل انتهاء ولايته من كون لفظة إسلام أمست تخدش أذنيه (Le vocable islam m'écorche les oreilles)، وسبق لوزيره الأول مانويل ڤالس أن ابتدع تركيب الفاشية الإسلامية (islamo-fascisme)، كما سرى كالنار في الهشيم وصف الإسلام أو الإسلاموية، لا فرق، بالعنف والإرهاب، وشبَّه الرئيس ماكرون مؤخرا الإسلاموية بالغول المتوحش (Hydre)، هذا ولو أن الإرهابي، من حيث المبدأ والتعريف الاتفاقي هو من لا دين ولا شرع له (no faith no law/ ni foi ni loi). اما الإعلاميون من شتى الأصناف في تغطياتهم لأفعال الجماعات المتطرفة المنتمية إلى بلدان إسلامية وحتى إلى اخرى أوروبية، كما في تنظيم داعش، فإنهم يتنافسون بنحو اعتباطي مجحف في حشر الإسلام كليةً ضمن تلك الجماعات فيدعشونه كمصدر إلهام واستعداء، وحين يبلغ عندهم هذا التوجه الطاغي والقصد المبيت حد التخمة والإتخام، تراهم ينوعون – والمعنى واحد – باستعمال كلمات مثل الاسلاميون الراديكاليون تارة والجهاديون والسلفيون تارة (ومعجم جيل كيبل وغيره في هذا المقام يمدهم بالزاد المطلوب ويسعفهم). وأمام اندفاعات أولئك الإعلاميين الجارفة، لم ينفع التنبيه المحتشم الصادر عن المجلس الفرنسي للديانة الاسلامية، فظلوا مصرين مستميتين في تمريغ اسم الاسلام في أوحال العنف والإرهاب، كما لو أنهما من صلبه وإنتاجه. وفد انفرد الرئيس التركي الطيب أوردغان بشجب هذا السلوك والطعن فيه، وذلك أثناء استقباله للرئيس إيمانويل ماكرون وللمستشارة أنجيلا مركيل أواخر أكتوبر 2018. ونعلم ما لمطارق الإعلام بكل صنوفه من دور مؤثر خطير في قولبة الرأي العام وشحذه وتجييشه، يعضده في هذا ويقويه اليمين المتطرف وبعض وجوه اليمين التقليدي في أوروبا الغربية، بحيث أخذوا يعتبرون الاسلام في حد ذاته دينا هو والارهاب سيان، أو كوجهين لعملة واحدة، فيلزم تحجيمه ومحاربته. وهذا أحدث استفتاء للرأي في فرنسا لوكالة إبسوس ويومية لومند يظهر أن 74% من المستجوبين يعتبرون الإسلام (كذا!) ديانة لا متسامحة (بلوغ لومند 24-01-2017). أضف إلى ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، ما صرحت به رئيسة الجبهة الوطنية الفرنسية مارين لوبين، فيما تطلقه من تصريحات عدوانية نارية، أن الشريعة الاسلامية "وحشية بشعة"؛ هذا علاوة على ما تقوم به في أوساط ثقافية أسماء متصهينة متنفذة من أدوار متقاطعة مكملة، كأدلير وديل فال مثلا ودنتيك وهنري-ليفي وهولبيك وفنكنكروت الذي يعتبر القرآن "كتاب حرب"، يغذي الجماعات الاسلامية ويستعديها على الغرب وحضارته، هذه الجماعات التي خصها المستشرق الأمريكي المتصهين برنار لويس بكتاب سماه صراحة عودة الإسلام (بلا ism) The return of islam؛ ناهيكم عن عرب الاسم والخدمة المجنسين أوروبيا والمدجنين الجدد، كعبد الوهاب المؤدب صاحب كتاب "مرض الاسلام" (من دون isme) وأنطوان سفير ومحمد صفاوي (المتعاملان جهرا مع المخابرات الفرنسية)، وهذا الأخير زايد على الجميع في إحدى حلقات برنامج C dans l'air خلال أواخر يناير 2017 حول الحرب في مالي، فابتدع نعت narcoislamistes (إسلاميي تجارة المخدرات)، وغير ذلك كثير! وكل هؤلاء في المحصلة إنما يؤججون نيران الجهالات والتشنجات الصدامية العنيفة، تتعلل بها الجماعات المتشددة من الطرفين وتتقوى. فماذا عسانا نقول في خضم أسواق وخردات تفيض بفوضى المفاهيم العارمة، والصور النمطية الملتبسة، وضوضاء الأصوات الحاقدة المسعورة؟ أسواق وخردات تطغى عليها النوايا السيئة المبيتة، المعْرضة إراديا عن معرفة الحقائق والسياقات السياسية والتاريخية؛ وكلها سائبة متناسلة تضرب في الصميم مشروع حوار الثقافات وتحالف الحضارات، وتحوّله إلى لغو وغثاء وكلمات خرافية جوفاء... ماذا يسعنا سوى أن نثبت ما يلزم من الاشارات والتنبيهات، التي نعلم مسبقا أنها لن تطرق آذان المعنيين بها، ولو سطرناها بلغتهم؛ وهي إجمالا كما يلي: في جميع الديانات والتيارات والنظريات، لا وظيفة للاحقة isme إلا إعلان مرجعها الفكري (أو الإيديولوجي)، أو هويتها الدينية. وهكذا فالمسيحية christianisme لا تعني شيئا آخر غير ديانة عيسى ابن مريم وآباء الكنيسة القائمة على الإيمان التوحيدي وعقيدة التثليث أو الصليب، وهي الديانة المتفرعة إلى مذاهب كبرى ثلاثة: الكاثوليكية والأورثدوكسية والبروتستانية، واللاحقة isme في هذه المذاهب كما في الديانة – الأم ليس لها أي تضمين دلالي خصوصي كالذي لها في islamisme؛ وقيسوا على ذلك اليهودية والبوذية والإحيائية، وغيرها. وعلاوة على ذلك، لا أحد يذهب إلى وضع فوارق من أي صنف ودرجة بين الإرهاب terreur والإرهابية terrorisme طالما تقوم هاته على نمط فكر وعمل يسن أتباعه ممارسة العنف الفعلي في علاقاتهم الصراعية بخصومهم ومناوئيهم. أما مفهوم إسلاموية السيئ الوضع والتوظيف، الخاضع لمعالجة لغوية خصوصية بالغة الاستثنائية والتعسف، فإن مسوقيه يظنون أو يزعمون أنه شيء وأن مفهوم الإسلام شيء آخر، وذلك من حيث إن هذا ينطبق على الديانة التوحيدية الثالثة وثقافتها وحضارتها، وذاك يعني الأصولية أو التطرفية الإسلامية، إلخ. وهذا الاختلاف الفارق الذي ينصرف البعض، حتى بين النخب العربية والمسلمة (بمن فيهم طارق رمضان!) إلى صقله وتلميعه كاختلاف في الدرجة والطبيعة، إنْ هو إلا بدعة حديثة الولادة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أي غداة نكبة يونيو في 1967 ثم الثورة الايرانية في 1979. وبعيد هذه الفترة انتعشت الالتباسات المصطلحية وعلت سهومها في بورصة الخلط والتزوير، تغذيها أيادي التعتيم والترهيب والخوض في المياه العكرة، فانطلت تسمية "اسلاميزم" و"إسلاميست" على نظم وأحزاب وهيئات وجماعات وأفراد في العالم الاسلامي، منهم على سبيل المثال: النظام الايراني والحكومات التركية والمغربية والمصرية أيام الراحل محمد مرسي، وفي نفس السلة يُلقى بمختطفي الرهائن والمتشددين من شتى الأصناف (أكمي، أنصار الدين،موجاوو، بوكو حرام، القاعدة، داعش...) وأيضا بالإرهابيين والجانحين من مستعملي العبوات الناسفة والسيارات المخففة وتجار المخدرات وهلم جرا. إن كلمات إسلام و"إسلاميزم" ومحمدية تحت النظر الأوروبي، لم تكن طوال قرون تُتداول إلا كتنويعات إسمية لمسمى واحد. ففولتير مثلا في Essai sur les mœurs يتحدث عن "الإسلامزم" من دون أن يميزه قط عن مرادفاته الأخرى، وكذلك الحال عند مستشرقي القرن التاسع عشر ومنتصف العشرين، كما تشهد بذلك أعمالهم، وأيضا المحاضرة التي ألقاها ارنست رينان في السوربون أواخر مارس 1883، وكان عنوانها "الاسلامزم والعلم". وبالتالي، إذا كان المطلوب هو توخي الوضوح والدقة في كل حوار بين العقائديات والثقافات، فإنه يتوجب الذهاب ضد تيار التحكمات الاصطلاحية المتهافتة (التي لها ثقالة العادة وعيوبها) ثم تسمية الأشياء بمسمياتها والجماعات بعناوينها، أي قريبا ما أمكن من طبيعتها ووظيفتها، وفي حالتنا المخصوصة: الغلو أو التشدد الديني (الذي نهت عنه نصوص الإسلام المؤسسة)، وأصحابه: الغلاة أو المتشددون الدينيون، لا سيما أن لا أحد يسمى متطرفي اليهودية باسم judaïstes، من إرهابيي إرغون وهاغانا أو إيغل أمير قاتل إسحاق ربين، في حين أن إسلامبولي قاتل أنور السادات نُعت على الفور بالإسلامي(!)؛ وكذلك الشأن في المسيحية، إذ لا تطلق تسمية christianistes على إرهابييها في الماضي القريب ولا في الحاضر، وما أكثرهم! وفي هذا المنحى، لا يسعنا إلا أن نؤيد ما ورد على لسان رئيس تنظيم سنة الأممالمتحدة في 2001 حول حوار الحضارات، السيد بيكو، إذ قال: "ليس التاريخ هو الذي يقتل، وليست الديانة هي التي تغتصب النساء، وليست طهارة الدم هي التي تهدم البنايات...وحدهم الأفراد يقومون بمثل تلك الأفعال". إن الإبقاء على الخلط السيمنتيكي بين الإسلام والإيديولوجيا المغالية التي تدعى الانتماء إليه ليدفع إلى اختزال بعدهما الاختلافي الكبير في مجرد خيط رهيف لا تتأخر نخب غربية، متبوعة بالرأي العام إجمالا، عن قطعه قصديا ومن دون احتياط يذكر، وخصوصا في فترات الأزمات والصدامات. وهكذا ففي البلدان العربية والإسلامية مثلا، يجد الديمقراطيون والحداثيون أنفسهم محشورين في مواقف غير مريحة وأحيانا باعثة على الشفقة، إذ يُطلب منهم غربيا أن يرفعوا اليافطات البيضاء ويمارسوا باستمرار التبرؤ والدفاع الذاتين؛ ومن بين هؤلاء، كما رمزنا، من يتبنى أجندا وقاموس المتغلبين ويزكيهما من باب التقية وحفاظا على مواقعهم وخرجاتهم النشرية والاعلامية؛ أما حَمَلة الوعي النقدي والمتشبعون بحرية الفكر وقيم العدالة والمساواة، فيضطرون إلى مواقف استفراغ الجهد في محاولات التوضيحات ورفع الأخلاط والالتباسات، مع علمهم المرير أنه، خارج دوائرهم الوطنية والاقليمية، تبقى كل أقوالهم وأفعالهم مهمشة، غير مسموعة من طرف لوبيات الاعلام الغربي بكل أشكاله وقنواته المتنفذة في تخطيط سياسة الأقوى وترسيخ قواعده وأساسيات هيمنته.