يتوقف المفكر والروائي المغربي بنسالم حميش في كتابه "في الإسلام الثقافي" الصادر حديثا عن الدار المصرية اللبنانية، وقبل ولوجه إلى رؤاه وتحليلاته لأعلام مثل الإمام أبي حنيفة النعمان، وأبي حيان التوحيدي، وابن رشد، وابن بطوطة، وابن خلدون، أمام مصطلحي الإسلام السياسي والإسلام الثقافي، ويرى أن ما اصطلح على تسميته ب"الإسلام السياسي"، الأكثر ذيوعا في أقطار شتى من العالم الغربي، حيث يختزل فيه الإسلام كله "ثقافة وحضارة" من طرف الإعلام ولوبيات نشيطة مؤثرة، حتى أن هذا الإسلام السياسي نفسه، يحشر في أنشطة جماعات، يضعون لها لوائح سوداء، تضم إليها من دون تمييز الغلاة المتشددين، وهنا يكمن القصد المبيت من لفظ "إسلاموية" ونشرها المبرمج المتعمد على نطاقات واسعة، هذا مع العلم أن الإسلام السياسي، يتصف بعلاقات تمايز ميداني واختلاف نوعي عن الإسلام الثقافي، وذلك من حيث الزمنية والتموقع والأهداف. ويضيف "الأول -الإسلام السياسي- ينبني ويعمل أساسا في السياسة كميدان خصوصي هو بامتياز ميدان البرنامج والفرضية والتجريب، وكممارسة إنسانية ليست بمنأى عن الفشل ومواطن الضعف، وبالتالي فلا مناص من أن ينخرط حقا في روح الديمقراطية كنسق سوسيو- سياسي وقانوني، تلغي أركانه المؤسسة كل شكل من أشكال الاعتباطية والحكم الفردي أو الفئوي، وتعطي للمواطنين حق تفعيل قاعدة التناوب والمساهمة في إدارة الحياة السياسة، وانتخاب ممثليهم وحكامهم ومراقبتهم، وكذلك محاسبتهم وإسقاطهم، حتى ولو كانوا من الجناح الأصولي". هكذا يصبح السجال خالي المضمون، بين دعاة الإمامة العامة أو الخلافة، والقائلين بنفيها كأصل حكم في الإسلام القائم تأسيسا على زعامة ملك، كما لا نرى فائدة لما ذهب إليه المستشار محمد سعيد العشماوي في مؤلفه عن الإسلام السياسي، من تمييز قاطع بين الأصولية الإسلامية والأصولية الروحية، وأيضا من حشر السياسة في صفات سلبية قدحية، صفات لصيقة بالممارسة السياسية في البلدان عديمة الصلة بالديمقراطية، لكنها تنتفي في الدول التي يقوم تقدمها الحضاري بنظامها الديمقراطي على قاعدة التداول والتناوب في ممارسة السلطة، بمقتضى الإرادة الشعبية وحكم الأغلبية، وهو نظام يدمج الأحزاب ذات المرجعية الدينية المنفتحة والسليمة، كما في إيطاليا وألمانيا والأميركتين. أمّا مع الثقافة في تاريخ الإسلام أو الإسلام الثقافي، فيؤكد بنسالم حميش على "أننا نكون إجمالا في أجواء وسياقات ذات طبائع ووظائف مغايرة، وذلك ما نطمح إلى تبيانه في هذا البحث، وأيضا من خلال نصوص نترجمها لبعض الفلاسفة الأوروبيين الكبار مثل كانط وهيغل ونيتشه، إضافة إلى مستشرقين، وقفوا عند الإسلام الثقافي، ليس من باب الإعجاب والتنويه، وإنما من باب التحليل وحسن الإدراك والإنصاف". ويلفت بنسالم حميش إلى أن هناك فقهاء تأذّوا من الظلم الفقهي- السلطاني، مثل قاضي القضاة ابن رشد الفيلسوف، والذي أنكر عمل إحراق كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام أبي حامد الغزالي، وذلك على أيدي المرابطين المتأخرين وبإيعاز من فقهاء بائسين. إن ما يجعل عظماء الفكر على خطوط النار، هو وقوفهم بين حكام يرمز إليهم بالنطع والسيف، وبين فلول توكل إليهم مهمة تبسيط الدين، وتحجيم المذهب، وأخرى تعمل على تسكين الرعية وضمان طاعة الراعي ولو جار. ويرى المفكر المغربي أن غالبية فقهاء التجهيل والتكفير أناس همل أغمار، لا يحفظ لهم التاريخ ذكرا ولا أثرا، عدا تحرشاتهم المتهافتة، بينما يسكن التاريخ علماءه ومفكريه في ذاكرة أمتهم. لم يعد هناك في أزمتنا أي حق لأفراد أو جماعات في إصدار فتاوى مكفرة، من شأنها أن توقع الفتنة والقتل في الناس، وتعرض حياة شخصيات عمومية في شتى الميادين للاغتيال، ذلك أن مجتمعاتنا أضحت في أيامنا قائمة على المؤسسات ومواثيق حقوق الإنسان. وفي رؤيته للإمام أبي حنيفة النعمان، يقول بنسالم حميش "ينهض فكر أبي حنيفة بأجلّ مهمة وأعظمها، وهي تقوية النفوس على التطبع بالوازع الخلقي، وتلقينها قيم الكدح والسعي، التي تنص عليها آيات كثيرة، وذلك باتباع الإمام لسنن اللين والتلطف". ويوضح إن ذهاب أبي حنيفة مذهب رفع الحرج ودفع المشقة، حدا ببعض المعتزلة والخوارج إلى حشره في زمرة المرجئة. ويؤكد بنسالم حميش أن اتهام أبي حنيفة بالإرجاء لا يقوم على أيّ سند صحيح، ذلك: أولا؛ لأنه لم يكن متحمسا لعلم الكلام. ثانيا؛ لأنه كان أحرص ما يكون على رعاية حرية الإنسان وإنسانيته. ثالثا؛ لأن الإمام، كما أكد الشهرستاني المدافع عنه في هذا المقام، "لم يقل أبدا بترك العمل"، ولا بترك الحبل على الغارب في أيّ قضية كبرى تهم المسلمين. وبعد أن يخلص من تحليلات لهؤلاء الأعلام الكبار في تاريخ الإسلام الثقافي، يختتم بنسالم حميش كتابه برؤية عامة يؤكد في مدخلها أن "تجديد الفكر الديني إجمالا والفقهي خاصة، لا يمكنه أن يعمل إيجابيّا إلا خارج كل انطواء على حدوده، أي أن عليه القيام في ترابط جدلي منتج، مع العلوم الإنسانية ومثل الحداثة المبدعة والديمقراطية الحقيقية". وهذا يفرض على القيمين عليه، الإسهام باجتهاداتهم في رفع تحديات التأهيل الحضاري ورهاناته، وتقوية مجتمعاتنا في مجالات الثقافة والأخلاق، بعيدا عن العقلية الأحادية المتحجرة، والنزوعات الدوغمائية التي تسيء إلى مقومات الإسلام، لا سيما وأن تيارات في الغرب تروم تبخيسه، وذلك في غمار حربها على ما تسميه بكلمة "إسلاموية" (islamisme)، كمرادف للعنف والإرهاب. هذه التيارات تدفع بالمؤسسات والنخب في الأوساط الإسلامية وبمسلمي المهاجر، إلى تبني وإظهار شتى مواقف الشجب والاستنكار، مشفوعة بتعابير التنصل إزاء تلك الإسلاموية، ومن دون أي إعمال لمنهج الفهم الذي كان الفيلسوف سبينوزا وعالم الاجتماع ماكس ڤيبر، من كبار منظريه؛ ذلك أن هذا الإعمال في تمثلات أصحاب تلك التيارات يتحول في آخر المطاف إلى آلية لصنع التبريرات والذرائع فالأعذار. ويشير إلى أنّ "تلك التمثّلات المعتلة، إنما تسهر على إنشائها وإذاعتها، نخب ولوبيات إسلاموفوبية متنفذة، وذلك من خلال بثها في مؤلفات وكتابات تدعمها دور نشر مهيمنة، فتتولى الأجهزة الإعلامية الدعاية لها والاحتفال بها، وتلقى انتشارا واسعا لدى شرائح غير قليلة من الرأي العام، تتأثر بأفكارها النمطية المستعدية، فتصرّفها بالاستجابة والتأييد في شتى الانتخابات". ثم يختم "وهكذا تحقق الأحزاب اليمينية المتطرفة صعودها في أوروبا، وتنقاد المعتدلة منها إلى مزاحمتها في التأقلم مع تلك الشرائح، كما تم إعدادها وشحنها.