دخلت فرنسا وحلفاؤها الأفارقة، وبدعم لوجستيكي من بعض القوى الغربية، في حرب بمالي ضد الجماعات المسلحة، أشهرها «القاعدة في المغرب الإسلامي» (أكمي)، وأخرى تتواطأ معها أو تحارب لحسابها الخاص. واللافت للإنتباه أن رئيس الدولة الفرنسية السيد فرانسوى هولاند في كل تصريحاته الإعلامية حول الموضوع لا يصف تلك الجماعات إلا بوصف واحد لا ثانيَ له، هو الإرهابية، ويحجم بالتالي عما سوى هذا الوصف، وكذلك فعل وزيره الأول جان-مارك هيرو والوزراء المعنيون بالملف في الدفاع والخارجية والداخلية، وذلك في الندوات الصحفية أو خلال أجوبتهم على أسئلة البرلمانين وأعضاء الغرفة العليا (السينا). وتعليل سلوك هؤلاء القياديين يرجع ولا شك إلى ذكائهم السياسي المتنور، القاضي بنزع أي انتماء إسلامي عن تلكم الجماعات، لأن الارهابي، من حيث التعريف، لا دين ولا قانون له (ni foi ni loi) حتى ولو ادعى عكس ذلك. اما الإعلاميون في تغطياتهم لتلك الحرب ميدانيا أو عبر الصحافة المكتوبة والسمعية-البصرية، فلا تخلو الجمل والفقرات عندهم من تسمية تلك الجماعات أساسا بالإسلامية (أو الإسلاموية لا فرق). وعندما يبلغ عندهم هذا التوجه الطاغي والقصد المبيت حد التخمة والإتخام، تراهم ينوعون – والمعنى واحد – باستعمال كلمات: الاسلاميون الراديكاليون تارة والجهاديون والسلفيون تارة (ومعجم جيل كيبل وغيره في هذا المقام يسعفهم). أمام اندفاعات أولئك الإعلاميين الجارفة، لم ينفع سلوك المسؤولين الآنف ذكرهم ولا احتجاج المجلس الفرنسي للديانة الاسلامية، بل منهم من قدح في هذا وذاك وعيّبه، وظلوا مصرين مستميتين في تمريغ اسم الاسلام في أوحال العنف والإرهاب، كما لو أنهما من صلبه وإنتاجه. ونعلم ما لمطارق الإعلام بكل صنوفه من دور مؤثر خطير في قولبة الرأي العام وشحذه وتجييشه، يعضده في هذا ويقويه اليمين المتطرف وبعض وجوه اليمين التقليدي في أوروبا الغربية، بحيث يعتبرون الاسلام في حد ذاته دينا هو والارهاب سيان، أو كوجهين لعملة واحدة، فيلزم تحجيمه ومحاربته. وهذا أحدث استفتاء للرأي في فرنسا لوكالة إبسوس ويومية لومند يظهر أن 74% من المستجوبين يعتبرون الإسلام -من دون isme- ديانة لا متسامحة (بلوغ لومند 24-01-2013). أضف إلى ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، ما صرحت به رئيسة الجبهة الوطنية الفرنسية مارين لوبين، فيما تطلقه من تصريحات عدوانية نارية، أن الشريعة الاسلامية «وحشية بشعة»؛ هذا علاوة على ما تقوم به في أوساط ثقافية أسماء متصهينة متنفذة من أدوار متقاطعة مكملة، كأدلير وديل فال مثلا ودنتيك وهنري-ليفي وهولبيك وفنكنكروت الذي يعتبر القرآن «كتاب حرب»، يغذي الجماعات الاسلامية ويستعديها على الغرب وحضارته، هذه الجماعات التي خصها المستشرق الأمريكي المتصهين برنار لويس بكتاب سماه صراحة The return of islam؛ هذا علاوة على عرب الاسم والخدمة المجنسين أوروبيا والمدجنين الجدد، كالمؤدب صاحب كتاب «مرض الاسلام» (من دون isme) وصفاوي (المتعامل جهرا مع المخابرات الفرنسية)، الذي زايد على الجميع في إحدى حلقات برنامج C dans l'air الأواخر حول الحرب في مالي، فابتدع نعت narcoislamistes (إسلاميي تجارة المخدرات)، وغير ذلك كثير! وكل هؤلاء في المحصلة إنما يؤججون نيران الجهالات والتشنجات الصدامية العنيفة وتتعلل بها الجماعات المتشددة من الطرفين وتقوى. فماذا عسانا نقول في خضم أسواق وخرذات تفيض بفوضى المفاهيم العارمة، والصور النمطية الملتبسة، وضوضاء الأصوات الحاقدة المسعورة؟ أسواق وخرذات تطغى عليها النوايا السيئة المبيتة والجهالات العنيدة، المعرضة إراديا عن معرفة الحقائق والسياقات السياسية والتاريخية؛ وكلها سائبة متناسلة تضرب في الصميم مشروع حوار الثقافات وتحالف الحضارات، وتحوّله إلى لغو وغثاء وكلمات خرافية جوفاء... ماذا يسعنا سوى أن نثبت ما يلزم من الاشارات والتنبيهات، التي نعلم مسبقا أنها لن تطرق أبدا آذان المعنيين بها، ولو سطرتها بلغتهم؛ وهي إجمالا كما يلي: في جميع الديانات والتيارات والنظريات، لا وظيفة للاحقة isme إلا إعلان مرجعها الفكري (أو الإيديولوجي)، أو هويتها الدينية. وهكذا فالمسيحية christianisme لا تعني شيئا آخر غير ديانة عيسى ابن مريم وآباء الكنيسة القائمة على الإيمان التوحيدي وعقيدة التثليث أو الصليب، وهي الديانة المتفرعة إلى مذاهب كبرى ثلاثة: الكاثوليكية والأورثدوكسية والبروتستانية، واللاحقة isme في هذه المذاهب كما في الديانة – الأم ليس لها أي تضمين دلالي خصوصي كالذي لها في islamisme؛ وقيسوا على ذلك اليهودية والبوذية والإحيائية، وغيرها. وعلاوة على ذلك، لا أحد يذهب إلى وضع فوارق من أي صنف ودرجة بين الإرهاب terreur والإرهابية terrorisme طالما تقوم هاته على نمط فكر وعمل يسن أتباعه ممارسة العنف الفعلي في علاقاتهم الصراعية بخصومهم ومناوئيهم. أما مفهوم إسلاموية السيئ الوضع والتوظيف، الخاضع لمعالجة لغوية خصوصية بالغة الاستثنائية والتعسف، فإن مسوقيه يظنون أو يزعمون أنه شيء وأن مفهوم الإسلام شيء آخر، وذلك من حيث إن هذا ينطبق على الديانة التوحيدية الثالثة وثقافتها وحضارتها، وذاك يعني الأصولية أو التطرفية الإسلامية، إلخ. وهذا الاختلاف الفارق الذي ينصرف البعض، حتى بين النخب العربية والمسلمة، إلى صقله وتلميعه كاختلاف في الدرجة والطبيعة، إن هو إلا بدعة حديثة الولادة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أي غداة نكبة يونيو 1967 ثم الثورة الايرانية في 1979. وبعيد هذه الفترة انتعشت الالتباسات المصطلحية وعلت سهومها في بورصة الخلط والتزوير، تغذيها أيادي التعتيم والترهيب والخوض في المياه العكرة، فانطلت تسمية «اسلاميزم» و»إسلاميست» على نظم وأحزاب وهيئات وجماعات وأفراد في العالم الاسلامي، منهم على سبيل المثال: النظام الايراني والحكومات التركية والمصرية والتونسية، وفي نفس السلة يلقى بمختطفي الرهائن والإرهابيين من شتى الأصناف (أكمي، أنصار الدين، بوكوحرام...) وأيضا بالجانحين من واضعي العبوات الناسفة وتجار المخدرات وهلم جرا. إن كلمات إسلام و»إسلاميزم» ومحمدية تحت النظر الأوروبي، لم تكن طوال قرون تُتداول إلا كتنويعات إسمية لمسمى واحد. ففولتير مثلا في Essai sur les mœurs يتحدث عن «الإسلامزم» من دون أن يميزه أبدا عن مرادفاته الأخرى، وكذلك الحال عند مستشرقي القرن التاسع عشر ومنتصف العشرين، كما تشهد بذلك أعمالهم، وأيضا المحاضرة التي ألقاها ارنست رينان في السوربون أواخر مارس 1883، وكان عنوانها «الاسلامزم والعلم». وبالتالي، إذا كان المطلوب هو توخي الوضوح والدقة في كل حوار بين العقائديات والثقافات، فإنه يتوجب الذهاب ضد تيار التحكمات الاصطلاحية المتهافتة (التي لها ثقالة العادة وعيوبها) ثم تسمية الأشياء بمسمياتها والجماعات بعناوينها، أي قريبا ما أمكن من طبيعتها ووظيفتها، وفي حالتنا المخصوصة: الغلو أو التشدد الديني (الذي نهت عنه نصوص الإسلام المؤسسة)، وأصحابه: الغلاة أو المتشددون الدينيون، لا سيما أن لا أحد يسمى متطرفي اليهودية باسم judaïtes، من إرهابيي إرغون وهاغانا أو إيغل أمير قاتل إسحاق ربين، في حين أن إسلامبولي قاتل أنور السادات نُعت على الفور بالإسلامي(!)؛ وكذلك الشأن في المسيحية، إذ لا تطلق تسمية christianistes على إرهابييها في الماضي القريب ولا في الحاضر، وما أكثرهم! وفي هذا المنحى، لا يسعنا إلا أن نؤيد ما ورد بقلم رئيس تنظيم سنة الأممالمتحدة حول حوار بين الحضارات، السيد بيكو، إذ قال: «ليس التاريخ هو الذي يقتل، وليست الديانة هي التي تغتصب النساء، وليست طهارة الدم التي تهدم البنايات...وحدهم الأفراد يقومون بمثل تلك الأفعال». إن الإبقاء على الخلط السيمنتيكي بين الإسلام والإيديولوجيا المغالية التي تدعى الانتماء إليه ليدفع إلى اختزال بعدهما الاختلافي الكبير في مجرد خيط رهيف لا تتأخر نخب غربية، متبوعة بالآراء العامة، عن قطعه قصديا ومن دون احتياط يذكر، وخصوصا في فترات الأزمات والصدامات. وهكذا ففي البلدان العربية والإسلامية مثلا، يجد الديمقراطيون والحداثيون أنفسهم محشورين في مواقف غير مريحة وأحيانا باعثة على الشفقة، إذ يُطلب منهم غربيا أن يرفعوا اليافطات البيضاء ويمارسوا باستمرار اليبرؤ والدفاع الذاتي؛ ومن بين هؤلاء، كما رمزنا، من يتبنى أجندا وقاموس المتغلبين ويزكيهما من باب التقية وحفاظا على مواقعهم وخرجاتهم النشرية والاعلامية؛ أما حملة الوعي النقدي والمتشبعون بحرية الفكر وقيم العدالة والمساواة، فيضطرون إلى مواقف استفراغ الجهد في محاولات التوضيحات ورفع الأخلاط والالتباسات، مع علمهم المرير أنه، خارج دوائرهم الوطنية والاقليمية، تبقى كل أقوالهم وأفعالهم مهمشة، غير مسموعة من طرف لوبيات الاعلام الغربي بكل أشكاله وقنواته والمتنفذة في تخطيط سياسة الأقوى وترسيخ قواعده وأساسيات هيمنته. وأمام هذا الوضع المأساوي القاضي بتمريغ اسم الإسلام في أوحال الغلو والإرهاب، لا نرى للأسف الشديد المنظمات الاسلامية الرسمية ولا وزاراتنا الوصية على القطاع الديني وفي الشؤون الخارجية تحرك ساكنا، ولو برفع ملتمسات إلى المنظمات الدولية المعنية، تدعوها إلى تفعيل مبدأ صيانة ثقافة الاسلام وحضارته من التسيبات اللفظية والتسميات الضالة المضلة، التي تسعى أوساط ولوبيات قوية على نشرها وتسويقها وتطبيع استعمالها وتداولها... بنسالم حميش